الشاعرة الإيرانية ناهد باقري تتأرجح على ضفتَي الواقع والمجاز في إطار حسّي خاص

طلال مرتضى

نعم… كل ما تشعر به هو صحيح، لن تعيا في الدوران حول ذاتك لتتأكد بأنك الآن في المكان الذي تكاثفت كل حواسك فيه لتشي لك أنك تدور في فلك دوامة الفراغ. هل تنصت إلى بعض الثواني لتتأكد من إعادة ترتيب كمية الهواء التي ملأت بهو أذنيك؟ بالتأكيد عليك فعل هذا، راقب عن كثب عمّا يترافد إلى نظرك من الصور، أنا أقرأ بإمعان بأنك تحاول وبكل ممكناتك كسر رتمها من باب البحث عن كوة نجاة حتى ولو كان عبورها خانقاً، إنها الحقيقة الكاملة التي تراها، هي هكذا، لعلّك لا تستطيع لمسها بأصابعك أو أعيتك الحيلة بأن تتحسّس مسامها بعد أن تجرعت خيبتك.

أنت الآن مثل ريشة رهيفة وقعت تحت سطوة عاصفة، الأجدر لك أن تنساب طوعاً مع التيار، لا وقت للعناد. كل هذا الارتباك لا يجدي، فالريح بالمطلق عصية وعنيدة كما أسلفت، إن لم تنحن فسوف تنكسر، أنت ريشة في المهب العاتي للعاصفة بالمطلق المكتوب منذ أول السطر الذي يقول: لقد ولدت كابن شرعي للخيبة، نعم.. عليك أن تنساب مع تيار العاصفة، تسترسل على مهل كي تكمل معها دورتها الخاوية إلا من سطوة الموت.. لا تحاول سدّ أذنيك بأصابع عنادك. فأنت كما أنت وهكذا استفقت تواً من حلمك المؤرق من دون أن تعد العدة ليومك التالي، لم تفكر لمرة بأن هناك من يشرع للرحيل أشرعة الغياب، أخذتك عزة الحلم نحو فراغ الفجيعة لتستفيق مبهوتاً وتصرخ ملء حواسك التي لم تزل تبحث عن مستقر لها بعد السقوط المدويّ من على سلم الموسيقى الذي أعيته أيضاً ضربات الأصابع الغارقة في غيبوبة الحلم الخاوي:

«حينما هبّت العاصفة

تكسّرت الأغصان..

ومنجل الريح الحاد بعثر عش

الطائر..

وحين عاد الهدوء في وسط

الصحراء..

بقيت أنا مع هذياني

الكلمات

بلا عقل

ويد عنيدة

حين سكنتُ تماماً

انفجرت أفراح الأرض».

هكذا كانت الحكاية في المطالع، حلم الرحيل مؤرق للغاية وصورة فادحة في عيون الحواس، وحده «المنجل الحاد» كلمة الفصل وباقي ما تبقى هو طنين العزلة الذي لم يزل مثل حجر نرد يدهش صداه على فسحة الرقعة من دون أن يحقق فتنة الفوز المنشود..

الشاعرة الإيرانية النمساوية ناهد باقري وحدها استطاعت أن تولم للخسارة كل مقوّمات قيامتها، فقد كانت على يقين بأن دوامة الرحيل اللعين، لا ريب من قيامتها هو ما زادها تحدّياً، التحدّي الأولي لذاتها، وهذا الذي أشير إليه بأنه باب البحث عن تفصيلات دقيقة بين الكلمات، يمكن الاتكاء على مضامينها لبناء جسر عبور نحو ضفة أمان تالية غير تلك التي وقعت تواً في مداركها، لهذا اتسقت مع وجعها بصمت وسكون تامين، ليس لأجل شيء بل لتفتح من جديد دفتر الفرح على تلك الأرض، الأرض هنا رمز وتميمة لا يمكن فك طلاسمها قبل أن تمتد يد الشاعرة بعند وتواجه «منجل» الضياع الحاد. وهنا كانت تكمن شيفرة الحكاية والتي فجّرتها لتنبثق من صحراء روحها أفراح الأرض جمعاء، لعلّها حكاية القرابين الأولى!

في قصيدة «رحيل» ذهبت ناهد باقري نحو ترميز الحكاية وتعميتها بعباءة المجاز على الرغم من أنها استعملت مفردات محسوسة مثل، «منجل»، «الأغصان»، «عش الطائر»، «الصحراء»، «يد عنيدة»، «الأرض». في المقابل فردت عدداً من الكلمات الحسيّة مثل، «العاصفة»، «كسر»، «الحاد»، «الهدوء»، «الهذيان»، و«الريح» وهذا ما يجعلني أتوقف ملياً وأبدأ من أول السطر للمفارقة بين حكاية المباشرة في نصها التالي: من أنت؟ وفعالية التخييل العالية التي اشتغلت عليها لبناء نصّها السابق «رحيل» هو النصّ المدغم ببعديه الحسيين، الحسّ الملموس والحسّ المجازي اللذين يكسران نصّ «من أنت». حين جاء كردة فعل صارخة، هي تجلياته قد بانت تباشيرها في مطالع الكلمات:

«من أنت..

الربيع

الموسم الحرام؟

هل أنت تلك النضرة على بشرة غضة

النار..

ولادة الخطيئة؟

من أنت.. نومك وإن تورّد كل صباح بالأغنيات

تعلو.. الأغنيات تعلو

حتى تسقط في حضن الارتباك..

مَن أنت.. خائف من كل أغنية

وكل لوعة

ترعبك..

مَن تكون.. والحب دوماً على يديك يحتضر

أي انتماء لك..

وأنفاسك بركة آسنة

وملابسك تعيد للذاكرة قروناً كئيبة

مَن أنت.. يا لعين الملعونين»؟

لعلّها الفكرة بدت جليّة الآن، عندما انزاح الغمام الموارب عن إطار الصورة العريضة، لوحة الصراع الأزلي بين الحب والخيانة، بين الخير والشر، بين الموت والحياة.

في نص «من أنت» تستعيد ناهد باقري روحها من جديد، تقوم كعنقاء من رماد انكسارها، خيبتها، لتعيد مرة أخرى رسم نوتة أخرى ـ تدن عليها ـ بطريقتها هي بعد أن عرت للجميع من خذلها، قدّمته بما يليق من التصور الفادحة الدهشة، كيف يحتضر الحب بين يديه، كيف تتحول أنفاسه إلى مستنقع آسن، كيف للمرء أن يحمل معه طعنات خيبة الحبيب إلى أبعد من زمان ومكان، بالمطلق لتنتهي أمام وقوفها في حضرة الشيطان الذي أعادت كسر نفوذه مجدداً، وقت أطلقت عليه من سلاحها الأبيض حبر الغوايات وهي تخاطب «بيتهوفن»:

«قف لسحب أنفاس الهواء..

رأسي يميل وكذلك الظل

باقٍ معي..

الأصابع المتشابكة تلامس الأرض بلطف

تشمّ حفنة

تنبعث منها رائحة المطر..

الظلُّ لا يسمعني..

لكنه يطبع قبلته على الأرض

مثلما تحوم الرياح الحنونة حول شعري..

يبدو كما لو كان بيتهوفن يلحّن مرة أخرى

مصيري

ولكن على أوتار أخرى».

وكأن بها تذهب نحو عالم آخر، فانفتاح باب المطر هو كسر لكل ما تقدم، وعطر الأرض هو المختلف في حكاية ناهد باقري التي رتّبتها على شكل اكتمال تفاصيل حياة خاضعة لدورة قمر، ضمن ضفتي الديوان التشاركي «لؤلؤة الدانوب» الذي أصدرته منظمة القلم النمساوية PEN وترجمته للعربية د. إشراقة حامد، وهو مجموعة نصوص نثرية لعدد من الشعراء النمساويين.

ناهد باقري بأسطر ناهد باقري شاعرة ومترجمة إيرانية نمساوية. لها سبعة مجاميع شعرية وثلاث روايات وجميع ما كتبت هو مترجم إلى اللغتين الفارسية والألمانية. نالت تكريمات مهمة عدة في النمسا.

كاتب وإعلامي عربي/ فيينا

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى