«بلطجة» ترامب.. هل توقف التراجع الأميركي؟

د. وفيق إبراهيم

يوجِّه الرئيس الأميركي دونالد ترامب ضربات عسكرية واقتصادية وسياسية في كل الاتجاهات. فما أن يحل عليه الوهن في سورية حتى يظهر في اوروبا موجهاً لرؤسائها دروساً في الإخلاف وعلى طريقة الكاوبوي، مُحدثاً دوياً إعلامياً قليل الفاعلية على المستوى العملي..

لكنه لم ينسَ حديقته الخلفية أميركا الجنوبية مُستشعراً تحسناً في علاقات بعض دولها بروسيا والصين مسترجعاً صور التنافس التاريخي مع الاتحاد السوفياتي فينتابه اكتئاب مقرراً تعيين رئيس مجلسها النيابي صديق السياسة الأميركية، غوايدو رئيساً لفنزويلا وبديلاً عن رئيسها الحالي مادورو الذي يمارس سلطاته الرئاسية استناداً إلى انتخابات شعبية فاز بها مؤخراً. وهذا لم يعجب ترامب الذي يهدد بغزو عسكري لفنزويلا إذا لم يرحل طوعاً رئيسها الحالي، ويختفي إلى الأبد للإشارة فإن واشنطن تحاصر فنزويلا اقتصادياً وتمنع عنها كل أنواع المساعدات، فيما تحرض المخابرات الأميركية المعارضة الفنزويلية لإسقاط بادورو وتزوّدها بالسلاح والمال والمعلومات.

هذه عيّنة عشوائية من سياسات ترامب «العالمية» ويبدو أولها سببان: احساس الرجل أن إمبراطورية بلاده في حالة متفاقمة من التراجع في الدور السياسي وبالتالي الاقتصادي، أما السبب الثاني فرغبته في التحول قائداً تاريخياً ينقذ الامبراطورية فينتخبه الأميركيون لولاية ثانية. وقد يستطيع بهذه الطريقة أن يقود الحزب الجمهوري أو بعض الاتجاهات اليمنية المحافظة الجامعة بين مسيحية متطرفة وعبرية قديمة كما يردد في مجالسه الضيقة، وكذلك كقيادة تاريخية متواصلة.

للتذكير هذا، فترامب هو الرئيس الأميركي الوحيد الذي يتدخل في أكثر من ثلاثين دولة في أول سنتين من ولايته وبشكل صدامي مركزاً على بلدان الشرق الأوسط واوروبا والصين وروسيا وجنوب شرق آسيا واليابان، وكندا ومجمل أميركا الجنوبية، إلا أن استراليا بمفردها نجت حتى الآن من تحرشاته.

آخر إبداعات ترامب، قانون «قيصر» لمعاقبة سورية بشكل صارم بذريعة أن عسكرياً سورياً متمرداً نقل الآن الصور إلى المخابرات الأميركية التي تسجل تعذيب السجناء السوريين وقتلهم من قبل عسكريي النظام في سجونه.

للتنبيه فإن ترامب لم يفعل هذا الأمر حتى مع منظمة داعش التي أبادت علناً وبنقل مباشر من المحطات الأميركية والغربية عشرات آلاف الأسرى واغتصاب مئات آلاف الأسيرات.

لا بدّ أن ترامب نسي مدى تقدم التصوير التلفزيوني والسينمائي المفبرك في قطر وتركيا وبلاده، ومداها الأوروبي.. أما إعلانه تحويل العراق قاعدة لتحرك قواته في منطقة سورية وجزيرة العرب وحصار إيران، فبدا مدهشاً، ومثيراً لحيرة العراقيين أنفسهم الذين لم يخبرهم بهذا التطور، قبل مغادرته بلادهم خلسة، أي تماماً كما دخل إليها.

كما يحاول تحشيد الشرق الأوسط في قمة وارسو الشهل المقبل «لتدمير إيران» داعماً السيسي في مصر لتمرير صفقة القرن وإنهاء القضية الفلسطينية على أساس حلف عربي ـ إسرائيلي.

ولا يتأخر عن تزويد بعض القوى السياسية لضرب حزب الله والحشد الشعبي العراقي وأنصار الله اليمني فاتحاً مفاوضات مع طالبان في افغانستان وهي «ابنة القاعدة بيولوجياً»، وللتضييق على جارتها، روسيا. زارعاً أسلحة صاروخية وغير تقليدية في مجمل أوروبا الشرقية والبلقان باستثناء بلدين صديقين لروسيا هما أرمينيا وصربيا.

لكن هذه الاهتمامات لم تجعله ينسى منافسيه، روسيا التي يفرض عليها عقوبات والصين التي يعاقبها ويفاوضها. كذلك كوريا الشمالية التي يحاول إرضاء بكين بالتفاوض معها، بأسلوب عقد المهرجانات لا المباحثات اما عدوته إيران فلا يدخر وسعاً لإسقاط جمهوريتها بالحصار والتحشيد والتهديد بحرب، وتحريض الإيرانيين على إسقاط ما يسمّيه الغرب «جمهورية الملالي».

ولإظهار مشروعه بالسيطرة على الاقتصاد العالمي، رفع العصا بوجه ادواته في الخليج، منتزعاً آلاف مليارات الدولارات منها، وعارضاً عليها الاستيراد الحصري من بلاده، مع بعض الاستثناءات الاوروبية والتنسيق الإلزامي مع روسيا في أسواق الطاقة.

تركيا بدورها هي العضو في الحلف الأطلسي والأداة الاميركية منذ خمسينيات القرن الفائت يعاقبها اقتصادياً ويهددها سياسياً.

فهل نجا أحد من سياسات ترامب الضاربة في كل مكان؟

هناك دولة واحدة لم يقترب منها الرئيس الاميركي إلا من اتجاه تأكيد تميزها عن الآخرين وعمق صداقة الأميركيين لها وهي «إسرائيل».

والدليل أن ترامب هو الرئيس الأميركي الوحيد الذي نقل عاصمة بلاده الى القدس معترفاً بها عاصمة لـ»إسرائيل» لاغياً الاونروا واللاجئين الفلسطينيين في العالم ودافعاً باتجاه صفقة قرن لإنهاء قضية فلسطين والتأسيس لحلف عربي ـ اسرائيلي يستهدف إيران وروسيا والصين.

بالنتيجة أدت هذه السياسات الى استنفار اوروبي يحاول التميز عن الحلف الاطلسي بدليل ان المستشارة الألمانية ميركل نسفت كل مساعي ترامب لمنع تراجع امبراطورية بلاده، ودعت بعد اجتماعها بالرئيس الفرنسي ماكرون الى «عالم متعدّد القطب»، والحفاظ على مكتسبات التجارة المفتوحة وإصلاح المنظمات الدولية، وتأسيس جيش إوروبي مستقل.

هذا الكلام للمستشارة هو الاجابة الشافية لفشل دور ترامب العالمي، فاعترافها بالتعددية القطبية، إقرار بتراجع الإمبراطورية الاميركية، أما مبدأ التجارة المفتوحة أيضاً رفض لمفهوم الحمائية الذي يتبناه ترامب واعياً فيه الى إقفال الحدود الاقتصادية.

لجهة تأسيس جيش اوروبي فهو انقلاب كبير على الحلف الأطلسي الذي يشكل اداة الهيمنة الاميركية على العالم.

وبذلك تكون تصريحات ميركل هي الرد البليغ على استمرار تراجع الأحادية الاميركية مهما بالغ الرئيس الاميركي في الاعتداء على دول العالم. فالمسألة اقتصاد وسياسة وتحالفات ـصبحت تعبر عن نفسها بالصعود الصيني الاقتصادي والتقدم الروسي العسكري واتساع الدور الإقليمي لإيران الى جانب إصرار أوروبي على احتلال موقع في نظام تعددية القطب، أي تماماً كما قال وزير الخارجية الروسية لافروف منذ أعوام عدة عن نظام قوة عالمي يضم نظاماً رباعياً يجمع بين الولايات المتحدة وروسيا والصين وأوروبا.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى