الروائي السوري الدكتور فادي سهو لـ»البناء»: الثقافة والتطور الفكري سلاحان ركيزتهما قراءة فعلية للتاريخ… والغزو الثقافي أكثر فتكاً على الهوية من الغزو العسكري

حاورته ـ عبير حمدان

يوغل الروائي السوري الدكتور فادي سهو في قراءة التاريخ لقناعته بأن بلادنا هي مركز الحضارات التي تشكّل هويتنا، مما يجعلنا نفكر كثيراً في كيفية التعلم من أخطائنا.

«تل الذنوب»روايته التي تضيء على إرث حضاري وأثري في محافظة الحسكة المعروفة بالجزيرة السورية لا يمكن فصله عن حكايا الإنسان المتجذّر في هذه المنطقة بكل ما تضمّ من تفاصيل اجتماعية وسعي إلى بلوغ الحبّ وتحقيق الذات ولو خارج إطار الجغرافيا التي ينتمون إليها ويبقى التغيير فعلاً صعب المنال أحياناً.

يرى سهو أن الطبيعة البشرية تذكر الأمور السيئة التي تبعث على الخوف أو اللعنة وعليه يعتبر أن وظيفة الكاتب الإضاءة على مرحلة مجهولة من يوميات الناس والمراحل التاريخية التي ساهمت في نسج هويتهم.

سهو الذي درس الأدب العربي ويحضر رسالة الدكتوراه في هذا المجال، يدرس الآن الحقوق هو عضو في الرابطة العربية للآداب والثقافة وباحث في الدراسات العربية في مركز الشرق المسيحي CEDRAC وأستاذ اللغة العربية لغير الناطقين بها في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى IFPO التقيناه في بيروت حيث يقيم ليتحدث عن تجربته ورؤيته لمهمة الكاتب الفعلية في مجتمعنا المحكوم بالاستهلاك.

نبدأ من عنوان الرواية «تل الذنوب»ليخبرنا سهو سبب ارتباط الاسم بمحافظة الحسكة وما يميّزها، فيقول: «أريد أن أبدأ من التركيبة السكانية المتنوّعة لمحافظة الحسكة التي تقع شمال شرق سورية على الحدود التركية العراقية، وكُثر لا يعرفون طبيعة المجتمع في هذا الجزء من سورية بشكل دقيق حيث لم يتم تسليط الضوء على هذا الجانب من بلادنا، وهذه المنطقة يطلقون عليها اسم «الجزيرة»ويتم ذكر الحسكة في التنظيم الإداري وحسب. عالم الآثار الايطالي بيكوريللا أجرى أبحاثه في منطقة الحسكة وقال إنها أكثر منطقة واعدة في العالم لما فيها من آثار، ففي هذه المنطقة هناك ألف تل أثري. ومن هنا أتى عنوان الرواية «تل الذنوب»، والدولة السورية كانت قد بدأت بالتنقيب وبشكل فعلي لاستخراج الآثار ولكن الأزمة والحرب التي تعرضت لها سورية حالت دون استكمال البحث. وهذه المنطقة الواقعة بين دجلة والفرات شهدت كل الحضارات التي مرت بدءاً من السومريين والأكاديين والبابليين إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى ليصبح واضحاً بشكل فعلي إلى بلاد الشام وفي اللهجات القديمة كان اسمها «نهرين»ويعود ذلك إلى وجودها بين دجلة والفرات، وهي كما دير الزور أغنى منطقة في البترول وفي إنتاج المزروعات هي الأولى، وهي معروفة بأنها منطقة الزراعة والبترول، والتلال فيها موجودة على نهر الخابور الذي يبلغ طوله 460 كليومتراً وكما هو معروف فإن الممالك بُنيت على ضفاف الانهار. وهذا السرد كله كي أوضح لماذا اخترت «تل الذنوب»كعنوان لروايتي وما أقصده هنا أن «الذنوب»هي اللعنة المتمثلة بالثروات الموجودة في الحسكة سواء البترول أو الآثار التي تشكل القيمة التاريخية والحضارية للمنطقة».

ويضيف سهو في إطار متصل: «تلك المنطقة تضمّ الكثير من القصص، ومنها العلاقة التي تربط الناس هناك بالنهر الذي يرمز إلى العطاء والخوف في آن، حيث إنه مصدر للحياة الزراعية وفي الوقت نفسه يبعث على الخوف بسبب حوادث الغرق التي حصلت، والذاكرة الشعبية تحفظ الحوادث السيئة أكثر من الأمور الإيجابية، وحين فاض النهر وأرسلت الدولة طائرة لإنقاذ الناس ترسّخ في ذاكرتهم الجانب السيئ من المشهد لتصبح «سنة الطيارة»هي العنوان المخيف بالنسبة إليهم، رغم أنها أنقذتهم ولكنهم ربطوا حضورها في الإطار السلبي وعادوا وتصالحوا مع النهر رغم أنه جرف محاصيلهم .. إذاً بكل بساطة حاولت أن أشكل العلاقة بين الإنسان والجماد والحيوان بالمفهوم الروائي لتشكيل هوية الإنسان الجزراوي، والبعض قد ينظر إلى هذا المجتمع على أنه بدوي وبعيد عن الحضارة، ولكن في الرواية يظهر العكس بما فيها من حوادث واقعية».

وعن الزمن الذي أضاءت عليه الرواية يقول سهو: «أنا أركّز بشكل أساسي من العام 1946 وصولاً إلى العام 2000، في محاولة للإضاءة على التاريخ لأني أعتبر أن وظيفة الكاتب إيصال آلام الناس والمرحلة المجهولة من التاريخ السوري لنعرف حقيقتنا وما يجب أن نفعله لنكون أفضل، ومعرفة تاريخنا يجب أن تكون معمّقة وليس مجرد عبور سريع على مراحل أسست لما نعيشه في زمننا الحاضر، المجتمع الذي تحدّثت عنه جزء من الهوية السورية وكان ضرورياً بالنسبة إليّ أن أتكلم عن هذا التاريخ، وباعتقادي أن ما قمت به بات يشكّل فرقاً ويحثّ كثيرين على البحث لمعرفة تفاصيل أكثر عن تاريخ بلادنا رغم أن 1946 هو تاريخ قصير مقارنة بتاريخنا، وحين كتبت روايتي لم أفكر بعدد المهتمين إنما أردت أن تصل رسالتي إلى مَن يهمه الأمر».

لكن هل يتوجه سهو إلى الجيل الجديد المحكوم بعصر السرعة، يجيب: «الجيل الجديد من الضروري أن يعرف تاريخ بلده، رغم أنه جيل السرعة والاستعجال، ولكن كما تعلمين بعد الحروب تتم إعادة تشكيل الهوية. ونحن الآن نمر في مخاض عسير قوامه التغيير، والثقافة هي سلاح فعال، لذلك على الإنسان السوري أن يعرف تاريخه لأن عدم معرفته له يهمّ جهات لا تضمر له الخير على الإطلاق، وانا كسوري إذا كنت لا أعرف كيفية تشكيل مجتمعي فكيف سيكون حاضري ومستقبلي. نحن نعيش في دولة واحدة وواقعنا الاجتماعي واحد ولو كان هناك بعض الاختلاف وبشكل نسبي بين المحافظات، ولكن في الشكل العام هناك أشياء مشتركة ولو أن كل محافظة لها خصوصيتها، ومن خلال الأدب من المهم أن نسلط الضوء على مدننا ومجتمعنا، بحيث يصبح كل كاتب سفيراً للمنطقة التي ينتمي إليها، وأعطيك مثالاً على ذلك وهو يعتبر من مؤسسي الرواية في سورية، حيث أن المرحوم عبد السلام العجيلي كان جوّاب سفر لمحافظة الرقة في سورية، وباعتقادي هي نقطة مهمة في تاريخنا السوري الحديث، الكاتب هو جزء من الحياة العامة ولكن في النهاية لا يجب أن يُلزم نفسه بالكتابة عن منطقة بعينها، والدليل أني حالياً أكتب عن حلب مروراً ببيروت وصولاً إلى أوروبا».

ويشير سهو إلى أن الشخوص الموجودة في روايته فيها ما هو حقيقي وفيها حكايا افتراضية، فيقول: «هي شخوص موجودة في يومياتنا العادية، أعطيك مثالاً عن وجيه من الوجهاء ضمن روايتي الذي يقتل ابنه عن طريق الخطأ وبالتالي ينسى الناس كل أفعاله الحسنة مقابل فعل وحيد سيء، وفي ذلك نوع من الإسقاط على نماذج موجودة ومكررة ونراها في أي مجتمع».

ويؤكد سهو أن التعامل مع التاريخ خطير فيقول: «ممكن أن يكون التاريخ فخاً للكاتب، وقد سُئل أحد النازيين مرة، ولا أذكر اسمه الآن، «متى تُشهر سلاحك»فأجاب «كل ما سمعت كلمة ثقافة»بمعنى أن الثقافة والفكر هما عاملان مخيفان للكثيرين وهما لا ينفصلان عن التاريخ مع الإشارة إلى أنه علينا البحث بهوية مَن يكتب التاريخ في زمن محكوم بالتطور والتسويق الإعلامي، من جهتي أنحاز إلى المنتصر الذي يقرّ بأنه يتعلّم من سقطاته وأخطائه».

لكن إلى أي مدى يرتبط التاريخ بالجغرافيا، يجيب سهو: «قديما كان الرابط أقوى ولكن اليوم بات الأمر نسبي، ففي الحروب الكبيرة تطور السلاح الحديث إنحسر دور الجغرافيا، وأعطيك مثالاً تاريخياً حيث أن العثمانيين لم يتمكنوا من السيطرة على اليمن بسبب طبيعتها الجغرافية، ولكن في العصر الحديث فإن القوى العظمى تسيطر على العالم، حيث نرى القواعد الأميركية في كل مكان، إذاً العالم يتغير بشكل سريع».

إذاً هل هناك إمكانية للمواجهة بواسطة الكلمة؟ يقول سهو: «يجب أن نسعى لتبيان وجهة نظرنا بشكل فعلي، ومن هنا يجب أن نقرأ في البداية، ومع الأسف القراءة معدومة في العالم العربي، وذلك لأننا شعب استهلاكي حتى حين يتصل الأمر بالثقافة، ونسعى للاستسهال ونحب الكسل وحتى أن الفرد الناجح عندنا يصل إلى سنّ يقرر فيها أن يتوقف عن العمل، باختصار أجزم أن الغزو الثقافي أخطر من الغزو العسكري .. المؤسف أن التبعية للغرب تتزايد وهناك إحباط واضح لدى الإنسان العربي الذي يختار الهجرة ولا يجهد لتحسين وضعه، رغم أن بلادنا هي مركز الحضارات وحتى الآن لا أفهم لماذا هناك أناس يتركون كل شيء خلفهم ويختارون اللجوء، فيما العالم الغربي يتجه إلى هنا سعياً لسلبنا ما نمتلكه، تصوّري أن هناك متحفاً في فلسطين المحتلة أقامه الكيان المحتل وعرض فيه آثار سورية. الغرب يستعمرنا بالتطور وهو يستفيد منه بينما نحن نستهلكه بشكل سلبي، أنا لا أقول إن تاريخنا كله مجيد ولكن علينا التعلّم منه للخروج من نفق الانحطاط الذي يسكننا ونسكنه، القراءة هي الخطوة الأولى ويبقى الأمل طالما نحن على قيد الحياة».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى