خطوط من استراتيجية المقاومة على ضوء ما قاله السيد…

العميد د. أمين محمد حطيط

رغم أنّ العدو «الإسرائيليّ يعتني بكلّ كلمة يقولها سيد المقاومة السيد حسن نصر الله، فإنه هذه المرة أوْلى وسيولي اهتماماً استثنائياً وشديداً لما أطلقه السيد في مقابلته الأخيرة مع قناة «الميادين»، نظراً لما تضمّنته هذه المقابلة في ملف الصراع مع العدو، من مواقف وقواعد ومبادئ تشكل في مجموعها المادة اللازمة لبناء استراتيجية عسكرية كاملة وشاملة لكلّ مواطن الصراع والمخاطر التي تشكلها «إسرائيل» ليس على لبنان فحسب، بل وعلى المنطقة برمّتها وبشكل خاص الإقليم الذي يقوم عليه محور المقاومة بكلّ مكوّناته.

فقد قدّم السيد في كلامه الأخير المادة الوافية والكافية لبناء الاستراتيجية التي تعتمدها المقاومة ومحور المقاومة في الصراع مع العدو من خلال مقارباته التفصيلية والعميقة لعناصر هذه الاستراتيجية. فهو بعد أن أجرى توصيفاً دقيقاً لحال محور المقاومة. وأكد أنّ هذا المحور سجل في سورية انتصاراً استراتيجياً مميّزاً وحقق هزيمة العدوان الكوني وأنّ ما تبقى في الميدان مؤكد الاستكمال وسيستكمل بالقوة إنْ لم يتحقق بالسياسة التي تتقدّم في الأولية على ما عداها اليوم، وبهذه الذهنية قارب الموضوع الاستراتيجي واتخذ فيه المواقف كما يلي:

أولاً من حيث المواجهة: كان واضحاً أنّ المقاومة بكلّ محورها تعتمد قرار المواجهة مع العدو في كلّ المستويات، وكان لافتاً كيف أنّ السيد ميّز في هذا المجال بين المواجهة العارضة المحدودة والمواجهة المفتوحة الشاملة. ففي الأولى هناك قواعد اشتباك تفرضها المقاومة وتقوم على «مبدأ التناسب والضرورة» ووفقاً لجدول أولويات محور المقاومة، ويكون فيه ردّ مناسب ومتكافئ مع العدوان ووفقاً لما يراه محور المقاومة، ولهذا كان التلويح بقصف تل أبيب في مقابل قصف دمشق. أما في الثانية وإذا ارتكبت «إسرائيل» جريمة أو خطيئة سوء التقدير في مكان ما، فإنّ الحرب ستندلع بما لا تهوى «إسرائيل» ولا تشتهي ولم تكن الحرب خاضعة لقواعد وضوابط تحدّدها «إسرائيل» لا في المكان ولا في الزمان ولا في الوسائل والأدوات.

ثانياً: المواجهة مع «إسرائيل» هي مواجهة محور وليست مواجهة عنصر أو فصيل أو دولة واحدة فقط، وهنا كان لافتاً تأكيد السيد بأنّ محور المقاومة غير محصور في إيران وسورية وحزب الله، بل إنه يضمّ أيضاً قوى أخرى منها رغم ما شاب علاقاتها البينية مع سورية من سلبيات كحركة حماس ومنها مَن لم يشترك حتى الآن في المواجهة العسكرية المباشرة مع «إسرائيل» كالفصائل العراقية وغيرها.

ثالثاً ميدان المواجهة الشاملة لا يقتصر على الحيّز الجغرافي الذي تحدّده «إسرائيل»، بل إنه مفتوح لأبعد من ذلك. وهذا أمر يعتبر استثماراً حسياً لما حققته المقاومة في حرب الـ 2006 من إسقاط لاستراتيجية العدو وعقيدته القتالية في بعض عناصرها خاصة عنصر «الحرب على أرض الخصم» وهي استراتيجية مكّنت «إسرائيل» وطيلة 60 عاماً تقريباً من الصراع ان تشنّ الحرب على أيّ جبهة تريد ويبقى داخلها آمناً. أما اليوم وحسب استراتيجية المقاومة فإنّ العمل القتالي وانتقال النار إلى داخل فلسطين المحتلة أصبح أكيداً في عنصر النار، ومحتملاً في عنصر الحركة القتال يقوم على الحركة والنار . وبالتالي تكون سقطت الى غير رجعة حالة «حرب عبر الحدود وأمن وعمل في الداخل» التي كانت تتباهى «إسرائيل» قبل اليوم، وتكون «إسرائيل» قد ألزمت أيضاً ولأول مرة في تاريخها باعتماد العمل الدفاعي وإدخاله في صلب عقيدتها القتالية وطبيعة التدريب عليها. وهذا ما يفسّر بناءها الجدر من الباطون المسلح، أو قيامها بالمناورات الدفاعية في الجليل والجولان لأول مرة منذ نشوئها.

رابعاً: تطوير في وظيفة عنصر النار التي تعتمدها المقاومة ومحورها، ووصول هذه النار الى مستوى التعامل مع الأهداف النقطية، بعد أن كانت مقتصرة على الأهداف المساحية، ومن المعروف عسكرياً أنّ وظيفة التأثير الناري وشدّته ترتقي متناسبة مع قدرة التعامل مع الأهداف النقطية التي لا تتجاوز فيها دقة الإصابة هامش الـ 25 الى 50 م. وهذا ما تعنيه حالة امتلاك المقاومة الصواريخ الدقيقة والعالية الدقة التي لا تتجاوز دقة الإصابة فيها الـ 15 م. وأكد السيد أنّ في يد المقاومة منها ما يكفي للتعامل مع كلّ بنك الأهداف المحدّد. وعلى هذا الأساس باتت في استراتيجية المقاومة قدرات تنفيذ «نار التأثير والتدمير المادي» بعد أن كانت مقتصرة على قدرات «التأثير النفسي وبعض التدمير المادي»، ويعلم العدو مدى خطورة هذا الأمر على صعيد المواجهة ونتائجها والخسائر المادية والمعنوية التي تنزل به بسببها.

خامساً: ارتباط مدة المواجهة، بنوعية العدوان وطبيعته، ففي المواجهة العارضة تنتهي المواجهة في حينها بعد أن تكون المقاومة ردّت على العدوان بما يناسبه وثبتت قواعد الاشتباك المعتمدة او عزّزتها اذا كان فيها بعض الثغرات الواجب سدّها دون ان تكون المقاومة معنية بالذهاب الى أبعد او تجاوز مقتضيات قاعدة «التناسب والضرورة» أما في الحرب المفتوحة فإنّ الأمر مختلف جداً، حيث انّ الحرب تبدأ بقرار إسرائيلي لأنّ المقاومة حتى اللحظة تعتمد الاستراتيجية الدفاعية التي لا تكون فيها الأعمال الحربية ضدّ العدو ابتداء منها بل تكون دائماً رداً على عدوان ، لكن انتهاء الحرب بعد أن تبدأها «إسرائيل» يكون بقرار المقاومة وهنا يلفت الى الإيحاء بتراجع قدرة الخارج في فرض وقف إطلاق النار . فالمقاومة توقف الحرب بتوقيتها وبرؤيتها هي ربطاً بأساس الصراع مع العدو ونظرة المقاومة لـ«إسرائيل».

وعلى ضوء ما تقدّم يأتي تفسير كثير من الأمور ودلالاتها ومفاعيلها، بحيث يمكن التوقف أيضاً عند مسألة الأنفاق التي ليست هي كلّ أداة تنفيذ عنصر «الحركة عبر الحدود»، وأنّ اكتشاف العدو بعضها لا يعني مطلقاً إسقاط هذا العنصر من الاستراتيجية، لأنه في الأصل لا زال عنصراً احتمالياً ضمن خطة المقاومة فضلاً عن كون الأنفاق أداة مساعدة في التنفيذ وبقدرات محدودة أما التنفيذ الواسع فإنه يعتمد على أدوات ووسائل أخرى لم تُمسّ.

وكذلك لا قيمة للعمليات العدوانية التي تزعم «إسرائيل» بأنها تنفّذها لمنع نقل السلاح إلى المقاومة أو لمنع حصولها على «سلاح كاسر للتوازن»، حسب تعبير العدو، فقد قضيَ الأمر وحققت المقاومة ما تريد وامتلكت ما تحتاج في أيّ مواجهة مقبلة مهما كان سقفها بدءاً بالعمل العارض المحدود وصولاً إلى الحرب المفتوحة.

وفي الخلاصة يمكن القول، بأنّ المقاومة ومحورها، وبعد النصر الاستراتيجي الكبير في سورية وهو نصر ثبت بطبيعته، وهو قيد الاكتمال النهائي بحجمه ومداه، إنّ المقاومة انتقلت في الصراع مع العدو الصهيوني الى مرحلة عسكرية جديدة تختلف عما سبقها، مرحلة تؤشر الى أمرين أساسيين الأول انّ تصفية القضية الفلسطينية باتت أمراً غير ممكن مهما انبطح بعض العرب وتنازلوا، والثاني أنّ الصراع مع الكيان الصهيوني مفتوح وطويل لا يتوقف الا باستعادة الحق لأصحابه الأصليين، وأنّ الخطوات الأولى على هذا الطريق نفذت وهي واثقة وأكيدة وثابتة.

أستاذ جامعي وباحث استراتيجي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى