اعتماد المعيار الأكثري لحكومة انتخابات نسبية؟

البروفسور فريد البستاني

ليس صعباً على أيّ متابع لمسار تشكيل الحكومة اكتشاف الخط البياني الصاعد والهابط بالتناوب بين فرص التفاؤل والتشاؤم، وما بينهما من تأزّم فتوتر فانفراج، فعودة للتأزم والتوتر والانفراج، حتى سئم الناس من تصديق الحديث عن التفاؤل، لأنهم صدّقوه مراراً وحصدوا خيبة الأمل، وصار الاقتصاد في وضع يُرثى له والاستحقاقات داهمة على المالية العامة، ونحن في حال الانتظار القاتل.

العودة بعد كلّ تأزّم إلى الانفراج يؤكد حقيقتين، الأولى هي أنّ هناك من يحاول دائماً ابتكار مبادرات لتدوير الزوايا ويتحمّل سهام الإفشال ومخاطر التعرّض للاتهامات المختلفة، وغالباً ما يكون رئيس التيار الوطني الحر الوزير جبران باسيل هو هذا المبادر، والثانية هي أنّ النيات الحقيقية لجميع الأطراف هي تخطي الأزمة والتعثر والوصول إلى تشكيلة حكومية تبصر النور في أقرب وقت، لكن المشكلة هي في المقاربات المختلفة للمشكلة الواحدة.

التدقيق في قضايا التعقيد يكشف بصورة واضحة أنّ المشكلة تكمن في حساب توازنات الحكومة، حقائب وعدد وزراء، على خلفيتين مختلفتين، خلفية أكثرية وخلفية نسبية، وربما هذا يشرح سبب تأكيد رئيس الجمهورية دائماً على أنّ الأزمة تحلّ باعتماد معيار واحد لتشكيل الحكومة، كما يفسّر محاولات التيار الوطني الحر ورئيسه التوصل مع الأطراف المعنية في تشكيل الحكومة، وفي مقدّمتها الرئيس المكلف، إلى تحديد هذا المعيار في تمثيل الكتل النيابية، وليس خافياً أنّ ذهاب البعض للتصويب على حصة رئيس الجمهورية هو نتاج التهرّب من مقارنة تمثيل الأطراف وفقاً لمعيار واحد، فهناك كتل تمثلت بأربعة وزراء لقاء تمثيل نيابي بخمسة عشر نائباً، مقابل كتلة تمثلت بثلاثة وزراء لقاء تمثيل نيابي بسبعة عشر نائباً، كان يمكن لتمثيلها بوزير إضافي أن يحلّ تمثيل اللقاء التشاوري بأحد نوابه الأعضاء فيها، وهناك كتلة تمثلت بستة وزراء لقاء تمثيل نيابي بعشرين نائباً، لو طبّق معيارها على تكتل لبنان القوي الممثل بتسعة وعشرين نائباً لنال تسعة وزراء دون احتساب حصة رئيس الجمهورية، وصارت حصة التكتل والرئيس بين إثني عشر وثلاثة عشر وزيراً.

جوهر أزمة تشكيل الحكومة هو في وجود طريقة جرى اعتمادها تقليدياً في ظلّ الانتخابات التي كانت تجري على أساس النظام الأكثري، وهي الطريق الاستنسابية لتحديد الأوزان والأحجام بالتراضي بين القوى الكبرى في المجلس النيابي المنتخب، والخلفية الأكثرية في تشكيل الحكومة تعني أن يتفاهم الفائزون بالنصاب الأكثري في طوائفهم على كيفية توزيع المقاعد الوزارية لهذه الطوائف. فالتمثيل المسيحي في آخر حكومة، التي تصرف الأعمال اليوم، قام على تفاهم معراب الذي يشكل التيار الوطني الحر قطباً رئيسياً فيه وهو صاحب التمثيل الأكثري المسيحي. والتمثيل الشيعي قام على تفاهم ثنائي حركة أمل وحزب الله اللذين يجمعان صفة التمثيل الأكثري لطائفتهما ومن ضمنه موقع رئاسة مجلس النواب، وترك التمثيل السني والدرزي للقوتين الأكثريتين في الطائفتين.

بعد الانتخابات النيابية على أساس التمثيل النسبي، بقيت عقلية التشكيل الأكثري للحكومة سائدة، لكن على قاعدة استنساخ الحكومة السابقة، وفرض تفاهم معراب على التيار الوطني الحر رغم اهتزاز أركانه السياسية وتمسك طرفيه بمضمون المصالحة فيه، بينما المنطق الأكثري يفترض ترك الأمر للقوة الأكثرية بين المسيحيين وهي التيار الوطني الحر، خصوصاً وقد باتت كتلته النيابية كتلة رئيس الجمهورية، وهذا الاستنساخ هو تمثيل نسبي معاكس لروح التمثيل الأكثري، وفيه رائحة استهداف للتيار الوطني الحر ورئاسة الجمهورية إذا كان المعيار أكثرياً، وعندما ارتضى رئيس الجمهورية والتيار الوطني الحر تمثيل المكوّنات المسيحية الأخرى فعلاً ذلك مراعاة للفهم النسبي الذي يؤمنان به، لكن عندما حاولا تطبيقه عددياً بقي التفاوض والتعطيل أربعة شهور، ولكن عندما وصل الأمر للتمثيل السني ظهر التمسك بالمفهوم الأكثري ومعناه حصرية التمثيل بالقوة الأوسع تمثيلاً لطائفتها في مجلس النواب، العقدة السنية الآن هي نتاج التباين بين مفهوم التمثيل الأكثري، لكن الاستنسابي، والتمثيل النسبي، لكن العادل.

الخروج من هذه الحلقة المفرغة، كي لا يقع أحد في شبهة استهداف مكانة رئاسة الجمهورية ودوره أو رئاسة الحكومة، فتقع التوترات السياسية والطائفية، يبدأ بالتوافق على تطبيق التمثيل الأكثري أو النسبي، والسير بذلك على الجميع بإنصاف دون استثناء. فإذا جرى اعتماد التمثيل الأكثري يُترك لرئيس الجمهورية والتيار الوطني الحر رسم المشهد المسيحي في الحكومة، ومقابلها يترك لرئيس الحكومة وتيار المستقبل رسم تمثيل الطائفة السنية في الحكومة، ويوقع الرئيسان على مرسوم تشكيل الحكومة الناتج عن هذا المفهوم طالما التمثيل الشيعي والدرزي باتا محسومين، وتكون حجة الرئيسين قوية في كيفية تمثيل الآخرين لأنّ المعيار واحد، وإذا جرى اعتماد التمثيل النسبي ينال كلّ من التيار الوطني الحر وتيار المستقبل عدداً من مقاعد طائفة كلّ منهما بحجم ما نال من مقاعدها النيابية، فتكون حصة تكتل لبنان القوي سبعة وزراء مسيحيين من خمسة عشر وزيراً لكونه يمثل سبعة وعشرين نائباً مسيحياً من أربعة وستين نائباً مسيحياً، مقابل نيل تيار المستقبل أربعة وزراء سنّة من ستة، لأنه يمثل سبعة عشر نائباً سنياً من سبعة وعشرين، ويتشارك الرئيسان في تسمية المقاعد العائدة لغير التيار الوطني الحر بين المسيحيين، وغير تيار المستقبل بين السنة، وتحلّ قضية تمثيل اللقاء التشاوري تلقائياً.

المعيار الواحد هو المخرج والاستنساب هو باب الأزمات، والتأقلم مع التمثيل النسبي أخذ ما يكفي من الوقت وآن الأوان للتسليم بأنّ شيئاً قد تغيّر ويجب أن يتغيّر، وتواضع رئيس الجمهورية والتيار الوطني الحر وموضوعيتهما، لا يجوز أن يتم تصويرهما خاصرة رخوة.

نائب في البرلمان اللبناني

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى