أمين الباشا رساماً وكاتباً وصديقاً الفنان الذي أراد أن يملأ الوجود حباً وألواناً وكلمات وضحكات..

سليمان بختي

منذ خمسينيات القرن الماضي وهو يريد أن يرسم العالم على هواه. واذا كان لكل فنان أسطورته او أيقونته فإن بيروت هي أسطورة أمين الباشا هي خريطة الطريق وذاكرة المكان. هي الحياة الجديدة التي انزرعت في اللوحة.

لم يتوقف أمين الباشا عن تهديم كل العوائق التي تحول بينه وبين وضع اللون على اللوحة وتجهيز السطح الملائم لبناء اللوحة. وهكذا ظل أمين الباشا يسأل اللوحة عن السر او على طريقة هايدغر: ما هو العمل الفني؟ وينتقل من لوحة الى لوحة ليكتشف أن ثمة جمالاً لا ينتهي.

هل كان الفتى أمين يعلم ان بوسع ريشته الطرية ان تجترح المستحيل؟ هل كان الفتى الذي كانه أمين يعلم انه وقع في حب المدينة مذ كان والده المحبّ لحياة المدينة والأدب والغناء يصطحبه صباح كل أحد في نزهة حول المدينة وشاطئ البحر.

شعر مذاك أن ألوان المدينة ملكه وحده. وراح يرسم ما يرى لأن ما لم يرَ ليس لوناً على حد ابن حزم الاندلسي في رسالة الألوان. راح يبحث في كل مرة عن لون يجمع البصر. عن لوننا الخارجي والداخلي، عن لون الطفولة والشباب والاختمار. ومثلما استغلّ بيكاسو الحب لفنه استغل أمين الباشا حبه لمدينته لإعلاء شأن فنه. تطرف في حب لا شفاء منه لمدينة لها في كل ساعة تجديد فأسعفته الألوان وأنقذته الكلمات ليبقى الحب معجزة الفن الاول. او لعله أسرف في الاغتناج لها والإدلال عليها حتى صارت له ما هو بهر جمال وروعة صنعة..

من شرق المتوسط، إبن شمس الألوان، بقدرة الروح الإبداعية على اختراق المشاعر ومسّها وعلى تعميم الدهشة والفرح والتفاؤل. بفنان قضى أكثر من ستين عاماً يبحث عن هوية فنية متداخلة مع هوية حضارية لمدينة، ولشعب يحب ان يتأمل في ذاته الإنسانية وبألوانه وشمسه الساطعة وبروحه المدمنة على الأمل بلا حجب او تزييف. نشهد لفنان كّرس طاقاته الإبداعية ليشهد للمدينة وتحولاتها وأطيافها وظلالها ليرسمها كما رآها في الواقع والقلب والخيال حتى غدا الرسام هو اللوحة، واقفاً على تلة او حرش او في مقهى او شارع. في بيروت رسم المكان والإنسان الطبيعة الصامتة او المتحركة، يرسم حتى يجمعنا كلنا هناك في زيت اللوحة أو مائها كأننا شذرات او قطرات عائدة الى النبع. خطف أمين الباشا تلك اللقطات من حياتنا فلا يعبر الزمن ولا يتغير المكان بل يبقى في اللوحة ذلك الفردوس المفقود.

في الغرفة الواقعة الى يسار محترفة في قلب بيروت رأيت لوحات وفراشات، رأيت الموسيقى تعبر الى اللوحات بيسر وانسياب، واكتشفت ان أمين الباشا يعزف اللوحة حسب المقامات الموسيقية الشرقية والغربية. وأنه أكثر الفنانين انضباطاً وانتاجاً وعملاً. يسهر أمين مع ألوانه يقضي الساعات. هو درّب نفسه من زمان على نظام صارم. ويعتبر ان الفن هو تعبير عن النظام.

عمل أمين الباشا هو تراكم إرث موهبة بصرية وخبرة وسفر في المكان وخارجه وفي المخيلة والألوان. ولكن سر لوحته في اكتنازها مفاهيم الواقع والحلم. حداثته كامنة في اللوحة وليست في المدارس والمذاهب والحركات والتصنيفات.

رسم أمين الباشا البهجة والغبطة والفرح، رسم الجمال، ولم تشغله الاسئلة الكبرى ولا الاتجاهات بل سحر الحب وشغف الجمال وقول المدهش والمفاجئ والبسيط.

يعطيك أمين الباشا ويقول إنه تأثر بالملهمين الكبار بيكاسو، ماتيس بهدوئه وتفاؤله وإنسانيته وسيزان وبول كلي وليوناردو ده فنتشي وفيلاسكيز. وفي لبنان يذكر الكبير عمر الأنسي في المائيات والزيتيات. ويتذكّر أنه استعمل الإكليريك ومادة الزيت في أعماله ثم اكتشف ان الفارق بينهما كالفارق بين سماع ام كلثوم وسماع مغنية معاصرة. وأن مدرسته الأولى كانت مقهى القزاز في بيروت ومنها انطلق إلى مقاهي باريس واسبانيا وإيطاليا. وإذا كان ابن الرومي يسأل في شعره عن خمارة البلد فإن أمين يسأل في رسمه عن مقهى البلد.

لذلك لم يترك ناحية أو زاوية في بيروت تعتب عليه إلا ورسمها او بالأحرى خلدها.

في ظني أن فن أمين الباشا هو شهادة على المكان وصراع الفنان مع وحشية الزمن.

وفي ظني أيضاً ان أمين الباشا حين ضرب ريشته فإنما قصد بيروت.

«نلتقي بالمدينة»، يقولها بلهجته البيروتية، ويخبرك عن مقهى جديد وفي ظنه ان المشهد جديد وجدير بالرسم وحقيق بالجمال. رحل وهو مازال يبحث عن ضوء جديد في روح المدينة.

ولا يكتمل الحديث عن أمين الباشا بدون الحديث عن الهدهد وأقصد زوجته انجلينا التي تابعت كل أمر في فن أمين الباشا وحياته. واهتمت بأعماله بصمت ولم يسمع منها كلمة واحدة عن حبها للوحة وهي التي تمضي الساعات متأملة لوحاته. وعندما يحتدم الخلاف الطريف فتقول له أحب فنك أكثر منك. وتبقى الحارسة الأمينة.

كناشر لكتب أمين الباشا كنت دائماً أعجب كيف يرّكب قصصه ومشاهده وكنت أعجب للغته التي تنساب كالألوان المائية في لوحاته. فهي تبدأ بمحاولته تجربة القول بالحرف مثلما يجرب بواسطة اللون طالما ردّد «إذ أكتب أشعر بأنني أرسم وحين أرسم أشعر بأنني أكتب».

ولكن القصة بدأت منذ كان أمين متحيّراً متردداً بين الكتابة والرسم والموسيقى. ومنذ أن نشر قصة قصيرة في مجة الأحد لصاحبها رياض طه ولم يتجاوز الرابعة عشرة. والكتابة حالة موجودة في كل لحظة. نشر مسرحية «المنتحر» 2009 ثم «دقات الساعة « قصص ورسوم 2011 ثم مسرحية «أليس» 2012 . وصدر له في الكويت في سلسلة كتاب العربي عن مجلة العربي كتاب «شمس الليل 2012 بقلم وريشة الفنان أمين الباشا وهو أول كاتب لبناني في السلسلة.

ثم أصدر «زهراء الاندلس» قصص وشاهدات… 2014 وطبعة ثانية في 2015.

وفي كل قصة من قصصه لا تنقل واقعاً وحسب، بل هي نظر صاحبها إليه على ما يقول ميشال بوتور. والأهم انه يعرف كيف يقاتل الزمن بالحب بالفن بالكلمة بالموسيقى بالشمس بالضوء بالحرية. ولا أزال أذكر شغف العمل على كتاب بيروت أمين الباشا مائيات ورسوم 1953 2009 وصدر في العام 2009 بمناسبة بيروت عاصمة عالمية للكتاب وحوى أكثر من 240 لوحة ونادراً ما أتيح لفنان في تاريخ الفن ان يرسم مدينة على مدى أكثر من نصف قرن أن كتاب عمره عن مدينة عشقها حتى الرمق. أذكر انه عندما انتهى من الكتاب شعر بالحزن بقدر ما شعر بالشغف، شعر أن بيروت شبابه ومراهقته راحت في الزمن لكنها رسخت في الكتاب. «بيروت لي الساعات كلها والأيام والتاريخ». ابتسم أمين حين سمع من المؤرخ الراحل كمال الصليبي هذا الرأي» إنه وثيقة جمالية تشهد لمدينة لم نتوقف لحظة عن تبشيعها».

من حسن حظنا أن أمين الباشا كان قريباً من الحركة الأدبية والثقافية، لأنه في الجوهر هو كاتب ومصدر إغناء لحركتنا الثقافية والأدبية.

هل يتسع المجال لكلام عن الفرص الضائعة او المغامرات التي لم تتحقق في رحلة أمين الباشا. كتاب عن الأندلس بعيون عربية رسم فيه أمين الباشا الأندلس إشبيلية وقرطبة وغرناطة ، وللأسف بقيت هذه اللوحات في جوارير الظلمة والظلام. وكانت هناك فرصة لأن يرسم مدينة طرابلس على غرار بيروت وتعثر المشروع. وكانت هناك فرصة ليضع أمين الباشا كتاباً عن مقاهي بيروت ولم تتوفر رعاية للمشروع. وكان يمكن لأمين ان يكتب شهادته عن الحركة التشكيلية في لبنان. هو الذي أسس جمعية الفنانين التشكيليين عام 1954 مع رفاق الطريق شفيق عبود وفريد عواد ومنير عيدو. وكم تأسف لعدم وجود متحف للفن التشكيلي في بلادنا، وعدم وجود دراسات نقدية معمّقة، وكم آلمه عدم وجود لوحات في بيوتنا وساحاتنا وقاعاتنا.

هذا القديس الغجري لم يرحم قلبه المفتوح من أعباء الحب والجمال، ولم يرحم أصابع يديه وضوء عينيه من شغف المحاولة. ولا رحم لحظة تمر دون ان تكون مشروع إبداع.

هو الصديق المحتشم المتواضع وأعماله في عواصم العالم ومتاحفه وفي كاتالوغات كريستيز وسوذبي وحاز على جوائز عالمية وآخرها كان الوسام المدني من إسبانيا. لعله وصل الى تلك النقطة التي قال عنها البروفسور الإسباني تورالبا «إنه مزيج استثنائي من الروحانية الشرقية والعقلانية الغربية».

لم يخف أمين الباشا على اللاطبيعي الذي يسود حياتنا، ولكن خاف على الطبيعة والطبيعي أن يضيعا في حياتنا. لم يخف على المدينة ولكنه خاف من القبيلة والبشاعة والفوضى. لم يخشَ الالوان المتعددة المتنوعة لكنه خاف من اللون الواحد. لم يخف على الماضي ولا على المستقبل ولكنه خاف من الحاضر الملعون. لم يحلم بثروة ولا بإنجازات بل حلم بالوقت الذي يتيح له ان يرسم ويكتب ويرسم ويكتب حتى يصير فنه جزءاً من جمالية وتنوع هذا الخلق البهي في حدائقه اللونية الساحرة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى