إضاءة

د. قصي الحسين

ينتابني حزن عميق لرحيل سلام الراسي، وهو الذي تحمّل المسؤولية إزاء الثقافة الشعبية الراهنة، وباحثيها والمشتغلين عليها، من الأكادميين والفضوليين الذين يجوسون أرضها يومياً، ويحاولون الحفر فيها، بحثاً عن كنوزها، دون علم أو دراية او عدة أو اجتهاد.

وما أسمعه منه في غيابه، بعد صدور كتابه: «المعروف عند بني معروف»، إنما يشي بعمق الغايات التي ذهب إليها، وبدقة الأهداف التي بلغها، وكأنه بمفرده، كان فريقاً من الباحثين المتعبين بالثقافة الشعبية والحفر عليها، بكلّ إرادة وبكلّ عزيمة واجتهاد، لا يبلغه إلا أصحاب الهمم العظيمة في البحث المتأني عن «اللقى»، في بطون التاريخ وأعماق الجبل عند بني معروف، العرب الصرحاء والأقحاح.

وعائلة المؤلف الراحل التي مهّدت لهذا «الكتاب الكنز»، وفي طليعتهم الصديق رمزي الراسي، والذي كانت نصوصه دفينة في طيات مؤلفات الراحل الكبير سلام الراسي، إنما هي تتحفنا بتمهيد ثمين، وفرت علينا جهداً مطلوباً لمعرفة حقيقة هذا الكتاب الذي جاء متأخراً عن وفاته بحوالي عقدين من الزمان: في سنة 1999، كتب سلام الراسي مقالة جاء فيها: «ولدت ونشات في مجتمع يتماشى مع تقاليد الدروز من حيث مفهومهم للكرامة، ونظرتهم إلى المرأة والجار وشرف الكلمة. وينسب إلى سلامة موسى، أحد علماء عصرنا، قوله: «تعرف الشعوب من شعاراتها في الحياة». وليسمح لي بنو معروف إذاً أن أتكلم عن شعاراتهم، كما تتمثل لي في أمثالهم وأقوالهم في بعض ظروف حياتهم».

وذكر سلام الراسي، أنّ الأديب الراحل سعيد تقي الدين التعاون كان اقترح عليه وضع كتاب بعنوان: «المعروف عند بني معروف»، يجمع فيه مآثر الكلام عند الدروز. ويضيف رمزي الراسي، مقدّم الكتاب، في تمهيده، نيابة عن العائلة التي اهتمّت بنشر الكتاب: «يسرّنا الآن أن يتمّ التعاون مع مؤسسة التراث الدرزي، على نشر كتاب «المعروف عند بني معروف» وهو عبارة عن اختيارات لنصوص كتبها سلام الراسي شيخ الأدب الشعبي، وأودعها بطون مؤلفاته، لتكون ترجمة صادقة لما كان يتمناه».

بالإضافة إلى كلمة المؤسّسة الناشرة، وبالإضافة أيضاً، إلى المقدمة التي حرّرها الصديق الدكتور شفيق البقاعي، يقع الكتاب في خمسة أقسام، شبه متوازنة.

1 ـ يتحدث القسم الأول عن الذكريات الشخصية التي سمعها الأديب الشعبي الراحل من أفواه أصحابها، فسجلها لهم. فروى المأثورات التي جعل لها عناوين مناسبة، مثل: «الرجال مخباية بثيابها»، و»ابن حكومة بس ابن أوادم»، و «المكعوم يرحل»، و»عندما بكى سلطان باشا الأطرش»، و «جبل الدروز، من سمّاه جبل العرب»، و «الصداقة والصدق في بعقلين»، و»عارف النكدي حامل المسؤوليات»، و»أبو الفرج أفهم من أفلاطون»، و «لا أعوج ولا جالس ولا طري ولا يابس».

يتحدث سلام الراسي مثلاً عن عارف النكدي فيقول: مات عارف النكدي سنة 1975 عن حياة حافلة بالعطاء… وما زالت المدرسة الداودية في بلدته عبيه، إحدى منارات العلم في لبنان، إلى جانب المدرسة المعنية والمدرسة التنوخية. سألناه يوماً عن حكمته في شيخوخته، قال أفعل بنصيحة الرئيس فارس الخوري:» أفعل كما أفعل أنا، بموجب حكمة «فانديك»: «لكي تطول أيامك، خفف همومك، وضاعف اهتماماتك».

2 ـ في القسم الثاني: تحت عنوان قيم وحكم. وهو باب مهمّ من أبواب، نفذ إليه سلام الراسي، لتقدير قيم وحكم بني معروف في الجبل. مثل: «السيماء في الأسماء»، و»نفذ القدر»، و «الباقي هو الله»، و»أهل الكرامات فيهم علامات»، و «الرحمة على مقدار الفضل».

يقول العلامة الشعبي سلام الراسي: «ملأت السيدة نظيرة جنبلاط مكانها وزمانها برجاحة العقل والفضل واحترام الذات. لذلك قيل في مأتمها ما يليق بكرامتها. لكن أبلغ ما قيل كانت أبيات من الندب، تعبّر عن مفهوم شعبي عريق، بدون أيّ تكلف:

«أهل الشوف جاؤوا يودعوك

أيا بنت المناصب والملوك

لولا ما الردى حكمو مقدّر

كانوا بالغوالي بيفتدوك

كنتِ للبلاد أما وأباها

تسوسي أمورها بحكمة ونباهة

وعندك يلتقوا رجال الوجاهة

الكانوا بالقضايا يشاوروكِ

صيتك كان محمود الشمايل

عاطر مثل أزهار الخمايل

نطلب من مشايخنا الأفاضل

على مقدار فضلك يرحموكِ

3 ـ في القسم الثالث، وعنوانه: مواقف: مثل: «بولادنا ولا ببلادنا»، و «عسكرك لم، ونحنا ولاد عم»، و»مالها سياج الدار غير رجالها»، و»الحزن يضعف عمل العقل»، و

«أحسن أيامك سماع كلامك»، و»بين الأميرين»، و»طير البيطير منذبحو»، و»مأتم الكبار، كبار المأتم».

ويقول الراحل سلام الراسي، تحت هذا الموقف، تعتبر دار المختارة، معقل آل جنبلاط، في قلب الشوف، أحد مراكز صنع القرار السياسي في تاريخ لبنان الحديث، خصوصاً في عهد سيدها الشيخ بشير جنبلاط الملقب بـ «عمود السما». وأثناء خلاف الأمير بشير الشهابي معه، زحف بنو معروف الى دار المختارة وهم يحدون:

ما بدنا الشوف براسين

ولا تعلا عالحاجب عين

كلّ واحد يلزم حدّو

الشوف بيحملش بشيرين

4 ـ عرض سلام الراسي أيضاً للحكايات والأمثال الشعبية، فقال ذاكراً: «من عبيه إلى بعقلين» و «كلّ كوع بقرش» و «لازم سلامو يسبق كلامو»، و «الندب عند الدروز وندبات للتاريخ»، وغيرها الكثير.

5 ـ حكايات حرمونية من الذاكرة الشعبية مثل: «نار الحبايب علقت» و «مأتم الفضلاء، ربيع الشعراء»، و»اذكروا موتاكم بالخير».

والحديث يطول عن الأدب الشعبي الجميل، عند سلام الراسي، الأديب العظيم حافظ الأدب الشعبي، والذي جعله في الحفظ والصون، بحيث لا يتكرّر مرتين.

أستاذ في الجامعة اللبنانية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى