إضاءة

د. باسل بديع الزّين

الاستسهال لغة مصدر استسهل، واستسهل الأمر عدّه سهلًا. والاستسهال كتابة، مفهوم غائم وملتبس يطرح إشكالات عدّة تتعلّق بطبيعة فهم هذا المصطلح، فضلًا عن معايير التّوصيف التي يخضع لها على مستويي الشّكل والمضمون، والأحكام المسبقة التي توجّه الرّأي العام وتقولبه في أطر تقليديّة ومبتذلة.

لا يخفينّ على أحد أنّ مصطلح الاستسهال ارتبط تاريخيًّا بكلّ حركة تجديديّة جاءت لتكسر قالب المألوف وتطرح تصوّراً مُغايراً لما هو سائد. وبعمليّة رصد سريعة، نرى أنّ قصيدة التّفعيلة، رغم ما حملته من رواسب اللغة القديمة، لم تسلم من تهمة الاستسهال وهي تهمة يسيرة، مجهّزة ومعلّبة ترصد أيّ حركة تجديديّة بالكيفيّة نفسها والآليّات عينها من دون أن تقف على مندرجات التّحديث في اللغة المستجدّة أو تقرأ في تضاعيفها ملامح تمرّد على أزمة قائمة أو مجايلة ضروريّة لمجريّات التطوّر وديناميكيّة الفعل المستمرّ وحيويّة الأداء المتنامي بفعل المواكبة لا النّقل، والابتكار لا النّسخ. وعندما جاءت قصيدة النّثر لتتفلّت من جميع القيود الشّكلانيّة، انطلقت جحافل المطبّلين والمزمّرين تنعي القيم الجماليّة والشّروط الإبداعيّة وتعلن جهارًا أنّ الاستسهال قد بلغ ذروته مُشيحة ببصرها عن مواكب التّجديد إيقاعاً وتجربة وتصويراً وتجريباً. واليوم، تتعالى الصّيحات وتنبري الأقلام لمواجهة شعر الومضة من دون أن تحمل في جعبتها جديداً، بل تكتفي بالإيماء الضّحل والاتّهام المباشر بالاستسهال من دون أن تقف على العمق المفهومي والبعد الفلسفي لهذه الحركة النقدية التجاوزية.

لا يُنكِــرَنّ أحد أنّ الاستسهال في كتــابة الشــعر ظاهــرة شائعة وشائعة جدّاً، شــاهدنا في ذلك كثــرة المنتــديات والعدد الهائل من الذين تعــجّ صفحاتــهم على شبكات التّــواصل الاجتــماعي، كما تعــجّ كتبهم بمئات المقطوعات الهشــّة والرّكيــكة مع كلّ ما تنطوي عليه من رداءة في المعــنى وعــقم في التّصــوير وافتقار إلى الموهبة الرّصينة.

وبعد، إذا كنّا قد أطلقنا أحكاماً فذلك لكي نكرّس صورة تقابليّة بين منهجين مُتباينين ينظر كلّ منهما إلى الاستسهال بطريقة مختلفة. المنهج الأوّل، ونعني به المنهج التقليدي الذي يقصر اتهامه على جملة معايير قبلية وبائدة مفادها مقدار الالتزام بالوزن والقافية، وقد انضوى تحت لوائه بعض أنصار شعراء التّفعيلة. هؤلاء النقاد، كما يحلو لهم أن يُطلقوا على أنفسهم، يُسوّغون آراءهم النقدية بتصوّرات تنتمي إلى معايير القومية والفحولة الشعرية والقدرة على الإتيان بالقوافي المنمّقة والسبك المتين والصنعة الراقية، من دون أن تقدم طرحاً شعرياً له لبناته الفلسفية ومداميكه التفكرية وأحكامه التصويبية وضروراته الاجتماعية وتسويغاته المضمونية.

لا شكّ في أنّ هناك طبقة مثقفة وواعية لا تأخذ بالأحكام اليسيرة والقوالب المعلبة لكنها طبقة صغيرة إذا ما قورنت بحجم الطبقتين الأخريين ونعني تحديداً: طبقة الراسفين عند حدود النظم والذين يعرفون الشعر على أنه كلام موزون ومقفى، وطبقة المطبلين الذين تُعوِزُهم شروط الفهم العميق والتدبر الشعري المكين، فيصفقون لكل ما يُكتب أو يُقرأ فيمجدون ويطوبون من دون الركون إلى أيّ معايير حكم واضحة أو أشكال فهم معمّق. لذا ترانا قابعين بين مطرقة التقليديين وسندان المطبلين.

وما بين هذا وذاك، يأتي شعر ومضة ليُكرّس نفسه شكلًا من أشكال التعبير الأصعب مرده في ذلك جملة تصورات فكرية نوجزها في ما يلي:

1 مسألة الإيجاز: توهّم البعض في ظنّه الإيجاز وسيلة للهروب من الإيقاع والقدرة على الإتيان بالمطولات التي تتطلب نفساً شعرياً مديداً وتعقباً صعب المراس للتجربة عبر تناميها في جسد القصيدة. الإيجاز عملية بالغة الصعوبة والتعقيد، يكفي أنها تسعى إلى التعبير عن الكثير بالقليل، أي أنها تسعى إلى رفد تجارب ذاتية وكونية ووجودية عميقة بمعادلات لغوية مطابقة لا يُمكن الإنقاص منها أو الزيادة على مضامينها. فالمتأمل في شعر الومضة يرى الكثافة وليدة الالتحام التطابقي بين الذات والموضوع، التحام ينجم عن ضبط اللغة ومنعها من الانجرار وراء السياقات الخطابية والهنات الانفعالية والإسهابات المجانية.

2 الدّهشة: الدهشة قبل كلّ شيء كسر لقالب المألوف. ترى كم من قصيدة مطولة أدهشتنا أو قلبت معايير الحكم لدينا؟ إنّ كلّ ومضة شعرية كفيلة بدفع المتلقي إلى التفكر ردهاً طويلاً من الزّمن، فهي، بالإضافة إلى كونها كسراً للعلاقة التجانسية بين الدال والمدلول لغوياً، عمل فلسفي تصويري حاد، يكسر علاقتنا المألوفة بالأشياء، ويعيد تشكيل مناط التشكل الوجودي بأسلوب مغاير فيفتق إمكانات الفهم ويلج أعماق المسكوت عنه ويفضح مكنونات المستور ويفضح الإيقاعات الرتيبة بين الرائي والمرئي ويطرح تصوراً مختلفاً ويعيد إنتاج لغة الكون بأسلوب مغاير، كلّ ذلك في سطور قليلة تستجمع طاقاتها وتحوي إمكاناتها وتصوّب نحو أبعادها فلا تقف على أرض تميد من تحتها ولا تسترسل في طيّ الإشارات ومدّ الاحتمالات وسبك الارتجالات بل تحتفظ بقدرة عالية على ضبط اللغة والاحتفاظ بالمشهد الكونيّ مكثّفاً كما هو في احتجابه فلا تؤاخي ولا تهادن.

3 الصورة: الصورة الشعرية في شعر الومضة مشهدية متكاملة تُحاذر الشطط والتنميقات المجانية، فهي قبل كل شيء رؤيا متماسكة لها بنيتها ومسارها وقواعدها الصارمة. وهل أصعب من تصوير مشهدية كاملة في بضعة أسطر؟ وإذا ما ساءلنا البعض: كيف ننادي بالتخلص من قيود الوزن والقافية ونمضي مغلولين بقيود الأسطر القليلة، لأجبناه من فورنا: لم يكن شعر الومضة يومًا ضدّ شرط الكتابة الصعب بل الأصعب، لكنّنا نرفض أن تكون القيود شكلانية لا تحمل بين طياتها عمق الفهم وحسن التصور وتدبر الفكر. شعر الومضة هو شرط الكتابة الأصعب لأنه ينحّي جانباً كلّ شروط القول الغثّ التي تكتسب بطريقة آلية بعد بضعة تمارين على الكتابة المقيّدة، ويكرّس شروطًا معرفيّة قاسية يحتاج الشّاعر أن يكابدها إبّان كلّ ومضة لكأنّنا به يعيد اكتشاف ذاته وإمكاناته في كلّ مرّة يكتب فيها ومضة جديدة. شعر الومضة لا يكتسب بل يكابد عوداً على بدء في كلّ عمليّة كتابة.

4 الإيقاع: العودة من اللطافة إلى الكثافة تتطلّب إيقاعاً داخلياً عميقاً بعد عمليّة استبعاد كلّ أشكال الإيقاع الخارجيّ المساعد كما نطلق عليه، لذا فإنّ مهمّة الشّاعر هنا أصعب وأعمق، على اعتبار أنّه مولج بتقديم تصوّر فكري فلسفي مشع متزامن مع بنية إيقاعية متولّدة من صميم المطابقة بين التجربة بأبعادها ومقدار الكلمات الضرورية للتعبير عنها بحيث يتعذر استبدال كلمة بأخرى أو مفردة بمرادفها.

آن الأوان لنعترف بأنّ الاستسهال هو قبل كلّ شيء رسوف عند القوالب التّقليديّة وعدم القدرة على إتيان التّجديد من أبوابه الواسعة. الاستسهال حركة ركود، حركة مناقضة للتّجاوز، فهم عقيم، وركــون بغيض إلى جملة أشكال منمّطة وتقليديّة لا تغني ولا تثمن من جوع فكيف بوسعها أن تمتلك معايير نقديّة وأحكاماً قيميّة إذا فشلت بالحكم على نفسها.

عضو ملتقى الأدب الوجيز

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى