ما زالت الأماكن في بيروت تشتاقه… هو فنانٌ التزم بهويته الحضارية وبمجتمعه وأمّته

سليمان بختي

مضى خمسة عشر عاماً على رحيل زكي ناصيف 1916 – 2004 ولم تزل الأماكن في لبنان تشتاقه: في الإذاعة اللبنانية قرب الصنائع، وفي الليالي اللبنانية في بعلبك، وفي الجامعة الأميركية، وفي تدريب فرقة بيروت السيمفونية قرب مخفر حبيش أثناء الحرب، أو في كنيسة مار بطرس وبولس للروم الكاثوليك في رأس بيروت، أو في مقهى الويمبي أو المودكا في الحمراء «الوجنتين» كما سمّاها الشاعر شوقي أبي شقرا، أو في قريته مشغرة عندما رفع آذان الفجر كاسراً حِدّة الحرب وتشنّجاتها. لم تزل أصداء ألحانه تملأ المكان. وأخشى القول إننا لم نعرف قيمته الفنية في حياته ولم نقدّرها حقّ قدرها. زارع الفرح والحب في لبنان الجميل في الزمن الجميل.

يحصي الباحث الصديق د. فكتور سحاب أكثر من 650 لحناً ومعزوفة أبدعها زكي ناصيف في حياته. وأكثرها من أجمل وأرق وأرهف الفولكلور الشرقي على نغمات النهوند. وألحان، ألحان زكي ناصيف لها رائحة وصورة وطعم ولون. كلما سمعتها خلتني أطلّ على قرية لبنانية مشرقية تحتفي بأفراحها وأعيادها وتقاليدها وطقوسها وتدعوك لمشاركتها.

يحب زكي ناصيف الأرض وأهلها وحكاياتهم. ولذلك سأل ناصيف الزعيم أنطون سعاده إبان تلحينه نشيد «سوريا لك السلام»: «من أين تأتي الموسيقى؟» فأجابه سعادة: «من الأرض يا زكي من الأرض».

زكي ناصيف فنان ملتزم بهويته الحضارية بمجتمعه بأمّته وهمّه التعبير عن كل ذلك بأرقى وأرهف وأعمق التعابير.

ولد زكي ناصيف في العام 1916 في مشغرة، البقاع الغربي وغرس من طبيعتها الجميلة وألوانها الكثير. نشأ على صوت أمه الجميل وعلى سماع الفولكلور وأسطوانات سلامة حجازي وسيد درويش وأم كلثوم وعبد الوهاب. وأيضاً على سماع التراتيل الدينية السريانية والبيزنطية. وعندما انتقلت العائلة إلى بيروت تأثر زكي ناصيف بألحان متري المر وأغاني عمر الزعني، أحبّ ذلك اللون النابض بروح مدينة بيروت وأجوائها. أهداه جاره جورج مزهر عوداً لِما تلمس فيه من موهبة موسيقية واعدة. ومنذ تلك اللحظة بدأت الرحلة الفنية الطويلة التي أخذته إلى المعهد الموسيقي في الجامعة الأميركية دارساً العزف على البيانو والعود والفيولونسيل والتأليف الموسيقي لثلاث سنوات. بعد توقّف الدراسة بسبب الحرب العالمية الثانية تابع دراسته مع الأستاذ الفرنسي برتران روبيار أستاذ التأليف الموسيقي في جامعة القديس يوسف والأكاديمية اللبنانية للفنون.

في العام 1953 قرّر زكي ناصيف احتراف الموسيقى وتعاقدت معه إذاعة الشرق الأدنى. وفي تلك الفترة تعرّف إلى حركة موسيقية نهضوية مع شباب من بيروت بينهم خليل مكنية خال الموسيقار توفيق الباشا والرسّام أمين الباشا ومحيي الدين سلام وسامي الصيداوي وخليل خديج وأنشأوا فرقة جوّالة تقدّم عروضها الموسيقية في المناطق والقرى اللبنانية، وكانت سعاد الهاشم أول من غنّى له. هذه الحساسية المختلفة في الغناء والتلحين الفولكلوري والتراث الشعبي التي أرساها زكي ناصيف بهمّة صبري الشريف جمعت حولها العديد من الملحنين الذين يستوحون التراث الشعبي مثل الأخوين رحباني وتوفيق الباشا وتوفيق سكّر وألفوا معاً عصبة الخمسة التي كان هدفها تغيير وجه الغناء السائد.

كانت محطته اللافتة في مهرجانات بعلبك الدولية عام 1955 وتجلّت في تلحين أغنيات الدبكة المستمدّة من روح الفولكلور والبحث عن أهازيج فلحّنها ونظّم أغنيات على وزنها. وفي العام 1956 وإثر العدوان الثلاثي على مصر توقفت إذاعة الشرق الأدنى بسبب استقالة جماعية للعاملين فيها احتجاجاً، فانتقل نشاطه إلى الإذاعة اللبنانية كعازف وملحن، وأدخل إلى الإذاعة غناء الكورس، ولم يجازف أحد قبله في وضع أغنيات للكورس.

لحّن الموشح وجدّد الفولكلور اللبناني بقالب الأصالة ومزج الألوان الشرقية والتقنيات الحديثة. في العام 1957 دشّنت عصبة الخمسة الليالي اللبنانية في بعلبك بعمل فولكلوري بعنوان: «عرس في الضيعة»، ونجحت أغانيه التي لحّنها للكورس، ومنها: «طلّوا حبابنا طلّوا»، و«يا لالا عيني يا لالا».

يروي المخرج الإذاعي محمد كريم انه إثر الانقلاب القومي ليل 60-61 ضُيّق عليه في الإذاعة وأُعطي مكتباً لا يتّسع سوى لشخص واحد ولكنه بقي عند رأيه ثابتاً قبل الانقلاب وبعده.

انضمّ زكي ناصيف إلى فرقة «الأنوار» ولحّن لها أجمل موسيقى رقص دبكة، مثل: «ليلتنا من ليالي العمر» وغيرها. كما درّس في المعهد الوطني للموسيقى وكذلك في المدرسة الموسيقية التابعة لمعهد الرسل في جونيه.

تعاون مع عدد كبير من المطربين والمطربات الذين غنّوا ألحانه مثل وديع الصافي وصباح ونصري شمس الدين وسميرة توفيق وماجدة الرومي وغسان صليبا وغيرهم، وغنّى بعض أغانيه بصوته المتماوج الرنين والصدى.

وكان يطيب له أن يقول إن صوت محمد عبد الوهاب هو صوت مقرآن على أصول التجويد القرآني والإدغام وكذلك صوت أم كلثوم وصوت عبد الحليم حافظ، أما فريد الأطرش فصوته غير مقرآن. أما فيروز فتعاون معها على مرحلتين: الأولى في إذاعة الشرق الأدنى وغنّى معها من ألحانه «هو وهي» ومن كلمات الشاعرة فدوى طوقان. كما تعاون معها في شريط «أهواك» و«يا بني امي» لجبران.

امتاز زكي ناصيف بكتابة كلمات لأغانٍ كثيرة، ولكن مَن يكتب لفيروز «فوق هاتيك الربى/ في صفاء مقمر/ ردّد الليل ندائي يا حبيبي/ أنت لي عمر الندى/ في الربيع المزهر/ أنت لي فيض الهناء وصفاء المنهل»… فهو بلا جدال شاعر كبير أيضاً.

أخيراً، لبثت الضيعة منهلاً أساسياً لموسيقى زكي ناصيف وأغنى من خلال أعماله اللون البلدي المعبّر عن هوية وقِيَم حضارية مثل العونة والحصاد والسنابل والفلاحين وأعياد الفرح. حملت أغانيه قيم الريف وجمال وطيبة أهله ومنه استمدّ الهوية الحضارية والروح الوطنية التي تدعو إلى تمجيد الأرض.

ولكن حياته انجدلت حول أمرين: التوفيق بين الأصالة والحداثة الذي هو جوهر المدرسة الموسيقية اللبنانية، والثاني أنه ظلّ يحنّ إلى القرية وربوعها حنيناً صادقاً، ولبث يُؤثِر أن ينهل من هذا المعين حتى آخر لحظة من عمره كأنه أو كأنها ينبوع أو أيقونة أو اسطورة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى