محاربة الفساد: معركة وطنية بامتياز

إبراهيم ياسين

بعد حديث السيد حسن نصر الله أمين عام حزب الله، قُطِع الشك باليقين على استمرار الحزب في محاربته للفساد المستشري في لبنان داخل مؤسسات الدولة، وأنّ هذه المعركة غير قابلة للمساومة وللتسويات، فهي معركة مقدّسة مثلما هي المقاومة ضدّ الإحتلال. ويمكن القول بأنها معركة مكمّلة لمعركة المقاومة، لأنّ الفساد لعب ويلعب دوراً أساسياً في إضعاف البلاد والتسبّب بالأزمات الاقتصادية والمالية والإجتماعية والخدماتية مما يؤثر على الاقتصاد الاجتماعي وعلى الاستقرار المالي، وبالتالي يضعف من مناعة لبنان في مواجهة الضغوط والإملاآت والعقوبات الغربية والأميركية التي تستهدف المقاومة، وفرض الوصاية على لبنان، وإخضاعه للاستراتيجية الأميركية التي تخدم العدو الصهيوني الساعي ليلاً ونهاراً للانتقام من المقاومة التي هزمت جيشه وألحقت به العار.

إنّ هذه المعركة كما قال عنها السيد نصر الله هي معركة صعبة وطويلة وتحتاج إلى إرادة وتصميم وإصرار، وإلى نفَس طويل من أجل تحقيق الأهداف المرجوة منها، وهي حماية المال العام واستعادة الأموال المنهوبة، تماماً كما أنّ مقاومة الإحتلال وإجباره على الإنسحاب من معظم الأراضي اللبنانية سبقها نضال وكفاح ونفس طويل قُدّمت فيه تضحيات جسيمة، ما كان ممكناً أن تُحقق ثمارها لولا توافر الإرادة والتصميم والصبر والتحمُّل والنفس الطويل في مقاومة هذا المُحتلّ الغاشم.

على أنّ المعركة ضدّ الفساد والفاسدين تحتاج إلى تضافر كلّ القوى السياسية، وهيئات المجتمع صاحبة المصلحة الفعلية في خوض هذه المعركة، لأنها معركة وطنية بامتياز عابرة للطوائف والمذاهب، تعني كلّ مواطن اكتوى ويكتوي من نار هذه الأزمات التي يضجُّ بها لبنان، وكان للفاسدين دور أساسي في صنعها. فعشرات المليارات من الدولارات أُهدرت أوسُرقت بإسم إعادة البناء، لكن النتيجة كانت صفراً مُكعباً، لأنّ كُل البُنى الأساسية في البلاد، من طرقات وشبكات صرفٍ صُحي، وخدمات عامة، من كهرباء ومياه ونفايات ومواصلات، تراجعت عما كانت عليه خلال الحرب، لا بل أنها أصبحت أسوأ من أيّ مرحلة ماضية في تاريخ لبنان. فمثلاً وبعد خمسة وعشرين سنة على انتهاء الحرب الأهلية لا يزال لبنان يعاني من تقنين قاسٍ في الكهرباء يبلغ إثني عشرة ساعة في اليوم الواحد على الأقلّ، فيما مؤسسة الكهرباء تعاني من عجز سنوي يبلغ ملياري دولار سنوياً تتحمّلها الخزينة، وبالتالي يرتب ذلك مزيداً من العجز في الموازنة العامة، فيما بلغ الدين الذي ترتب من جراء هذا الفساد في شركة الكهرباء نحو أربعين مليار دولار من أصل الدين العام الذي ترتب على البلاد والبالغ بحسب الأرقام الرسمية 86 مليار دولار، وبالتالي يُضاف على هذا المبلغ فوائد كبيرة يتحمّل اللبنانيون دفعها عبر ضرائب غير مباشرة أرهقت كاهلهم وزادت من معاناتهم المعيشية على المستويات كافة. وما يسري على الكهرباء يسري على بقية القطاعات الأخرى والمؤسسات التي أُهدرت فيها المليارات، ومحاربة الفساد والفاسدين لا ترتبط فقط بتقديم ملفات مدعومة بمستندات موثقة إلى القضاء، والمجلس النيابي والحكومة، فهذا جزء من المعركة لأنّ موازين القوى داخل هذه المؤسّسات قد لا تساعد على محاسبة الفاسدين الذين سيحتمون بالطبقة السياسية التي وضعتهم حيث هُم والمحسوبين عليها، وستلجأ هذه القوى السياسية إلى إستخدام كلّ أسلحتها للدفاع عن نفوذها ومصالحها، وبالتالي حماية أيّ فاسد يثبُت ضلوعه بالفساد خاصةً إذا كان من أركانها، وهذا ما نتلمّسه من خلال استنفار بعض القوى السياسية للعصبيات الطائفية، لوضع العراقيل استباقياً في مواجهة أية إدانة قد تثبت على بعض شخصياتها الأساسية التي كانت في السلطة أو لا تزال في موقع المسؤولية.

هذا الأمر يطرح مهمة أساسية على القوى التي تخوض معركة محاربة الفساد هي التصدّي لحُماة الفاسدين، والعمل على رفع الغطاء عنهم وجعلهم يمثلون أمام القضاء عند ثبوت التهمة عليهم.

كما أنّ هذا الأمر يطرح أهمية وضرورة خوض معركة استقلالية القضاء عن السلطة السياسية حتى يتمكّن من القيام بدوره بشفافية بعيداً عن أيّ تدخلات أو ضغوط، وبالتالي توفير الحصانة للقضاة، وتطهير هذا الجسم القضائي من أيّ فساد قد يعتريه، باعتبار أنّ ذلك جزء أساسي من المعركة. كما أنّ معركة الفساد لا يمكن أن تنفصل أيضاً عن مواجهة السياسات الإقتصادية والمالية الريعية، وما أنتجته من قوانين تُشيعُ الفساد وتُشكل مدخلاً لتحقيق مصالحها، كتهميش مؤسسات المحاسبة والرقابة ودائرة المناقصات وتشريع العمل بإجراء العقود بالتراضي التي شكلت مدخلاً خطيراً لعقد الصفقات خارج أيّ رقابة من المؤسسات المعنية بأمر الرقابة والمحاسبة، مما سمح بهدر الأموال وتنفيذ المشاريع التي شابها واعتراها الفساد في طريقة التنفيذ، عدا عن تكبير حجم وقيمة عقودها لتسهِل عملية الرشاوى والسرقة. إضافة إلى أنّ هذه السياسات الريعية تتحمّل المسؤولية الأساسية عن زيادة الدين العام عبر الفوائد المرتفعة لهذا الدين عبر سندات الخزينة مما شكَل فرصة لأصحاب الأموال والمصارف لتحقيق العائدات الضخمة، وبالتالي عدم تثمير الأموال في أيّ مشاريع منتجة في البلاد، مما أدّى إلى إلحاق الضرر الفادح بالإقتصاد الحقيقي المنتج للقيمة المضافة والنمو، الذي يتمثل في الصناعة والزراعة والسياحة، وهي القطاعات الأساسية التي يشكل انتعاشها حلاً لمشكلة البطالة وتأمين فرص العمل للشباب وللخريجين. ولأنّ هذه القطاعات همّشت وتراجعت بشكل كبير في ظلّ السياسات الريعية، ازدادت البطالة لتبلغ أرقاماً قياسية لم يشهدها لبنان من قبل، مما دفع بالشباب والخرّيجين والكادرات إلى الهجرة بحثاً عن فرص عمل في الخارج.

من هنا، يمكن القول إنّ المعركة ضدّ الفساد والفاسدين، إنما هي معركة سياسية وطنية شاملة تحتاج إلى موازين قوى لتتمكّن من تحقيق أهدافها التي ترتبط بشكل مباشر بتغيير السياسات المنتجة للفساد وللأزمات المختلفة، وهذا ما يستدعي أن يشكل خطاب سماحة السيد حسن نصر الله أساساً هاماً للإنطلاق منه والبناء عليه لتشكيل القوة السياسية والإجتماعية والشعبية القادرة على خوض هذه المعركة وفق خطة متكاملة قادرة على تحقيق الأهداف المرجوة منها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى