نعم لمكافحة الفساد

زياد حافظ

قد يكون خطاب أمين عام حزب الله السيّد حسن نصر الله في 8 آذار/ مارس 2019 محطّة فارقة في تاريخ لبنان المعاصر وفي مسار المقاومة ومحورها في المنطقة. فالإصرار على استمرار مقاربة الملفّ الاقتصادي في لبنان عند حزب الله حسم جدلاً ظهر منذ خطاب الأمين العام بعد الانتخابات النيابية عندما تكلّم عن الوضع الاقتصادي والفساد المستشري في البلاد. قيمة كلام السيد حسن نصر الله تكمن في المصداقية العالية في لبنان والمنطقة العربية وفي الإقليم وفي العالم أجمع. فهو الذي يفي بما يعد خلافاً لطبقة السياسيين الذين يطلقون الوعود في المناسبات والاستحقاقات وسرعان ما يتناسوها. فهنا ظاهرة جديدة جديرة بالاهتمام.

أكّد الأمين العام لحزب الله خطورة الوضع الاقتصادي الذي لا يختلف عليه اثنان. لكن الحلول المتداولة بين النخب اللبنانية متعدّدة ومتناقضة. لم يفصح الأمين العام عن خارطة طريق للخروج من المأزق الحالي بل أكّد على استمرار حزب الله بمحاربة الفساد. وهذا الموقف يلاقي ارتياحاً كبيراً لدى اللبنانيين الذين يئسوا من وعود سابقة لعدد من المسؤولين. لكن لم يفصح الأمين العام عن كيفية محاربة الفساد بل اكتفى بالإشارة إلى وجود طواقم عمل لدى الحزب تهتمّ بكافة الملفّات. وربما قد يكون من المفيد إعلام اللبنانيين عن الخطوط العريضة لخطّة العمل وخاصة في ما يتعلّق بالخيارات السياسية الاقتصادية، وقبل ذلك في الخيارات السياسية لإصلاح النظام السياسي القائم. فكثيرون يعتقدون، وهم محقّون من الناحية المبدئية، أن لا إصلاح ممكناً في إطار النظام الطائفي السياسي القائم. كما أن لا إصلاح للنظام إنْ لم تتبلور خيارات سياسية واضحة كالمضيّ في تثبيت الاستقلال للقرار السياسي اللبناني بعيداً عن الإملاءات الخارجية وعن الوصاية التي تحاول بعض الدول الغربية والخليجية فرضها على لبنان. فهذه الدول تعتمد على من هو مستعدّ لترويج سياساتها في لبنان وإنْ كان على حساب مصلحة الوطن. لذلك يصبح السؤال كيف يمكن مكافحة الفساد دون الغوص في مطبّات إصلاح النظام؟

في هذا السياق يمكننا الرجوع إلى كتاب الصديق الأستاذ ناصر قنديل «حزب الله وفلسفة القوّة» حيث شرح كيف تعامل الحزب مع التساؤل الذي شلّ القوى والأحزاب الوطنية والقومية في مواجهة الكيان الصهيوني قبل حلّ معضلة تحقيق الوحدة كشرط لتحرير الأرض المحتلّة سواء في لبنان أو في فلسطين، أو معضلة إصلاح النظام السياسي لمواجهة الكيان. لن نسترجع آلية تفكيك سلوك الحزب عند بدايته كما شرحها الكاتب بل نكتفي بالإشارة إلى أنّ الحزب لم يغرق في المناظرات النظرية بل أقدم على خطوة محدّدة، والخطوة المحدّدة عند إنجازها حدّدت بدورها الخطوة التالية وكذلك الأمر. وبهذا الأسلوب استطاع الحزب أن يراكم الإنجازات والقيم المضافة التي لم يصرفها إلاّ لتعزيز فائض القوّة كما أنّ فائض القوّة لم يصرف لمكاسب آنية بل لتراكمات أدّت إلى المزيد من القيمة المضافة فالفائض من القوّة.

نعتقد أنّ الحزب قد يسلك مساراً مشابهاً لمسلكه في تحرير الأرض عندما كانت إمكانياته وقدراته المادية محدودة وأقلّ بكثير عمّا راكمه حتى الآن. من هنا يستطيع أن يتكلّم الأمين العام عن الطواقم التي تدرس مختلف الملفّات المطروحة على الساحة، وأنّ المضيّ بمكافحة الفساد يبدأ بخطوة محدّدة. لم يعلنها الأمين العام وإنْ كانت قراءات العديد من المراقبين تشير إلى أنّ سلسلة من الإجراءات والأحداث التي شهدها المسرح اللبناني تفيد بأنّ شيئاً ما قد حصل. لسنا في إطار تحديد تلك الخطوة لأن سرعان ما ستليها خطوات أخرى فنصبح وسط مشهد غير مألوف في الساحة اللبنانية سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي. وهذه التحوّلات قد تفرز أدوات لمقاربة المشهد قد لا تكون في تصوّرنا اليوم وهذا ما نعتقد ما أشار إليه الأمين العام في خطابه الأخير حول ضرورة أن نتوقّع ما لا نتوقعه.

قراءتنا لخطاب السيّد حسن نصر الله هي أنّ خطّة الدفاع عن المقاومة والحصار الذي تحاول الولايات المتحدة فرضه عليه من عقوبات هي الدفاع عن لبنان. والدفاع قد يستلزم خططاً هجومية وليست فقط ردعية أو وقائية. فالعقوبات المفروضة أميركياً والتي سبقتها وتلتها إجراءات سياسية أميركية وبريطانية وخليجية هي إجراءات ضدّ لبنان وليست فقط ضدّ المقاومة. فالعقاب الجماعي هو سلاح الضعيف الذي لا يستطيع إقناع خصمه فيلجأ إلى القوّة التي لا تفرّق بين المستهدف والبيئة التي يعيش فيها. من جهة أخرى نعتقد أنّ رغم مظاهر القوّة عبر البلطجة التي تمارسها الدبلوماسية الأميركية والغربية فإنّ الضعف أو الوهن هو سمة تلك الإجراءات. وبالتالي، فإنّ مواجهة تلك الإجراءات ليست ممكنة فحسب بل واجبة وأنّ كلفتها أقلّ بكثير من الرضوخ لها.

فما هي الخيارات المتاحة لدى لبنان في تلك المواجهة التي تريد فرضها الولايات المتحدة وحلفاؤها في أوروبا والمنطقة؟ الخيارات هي سياسية واقتصادية في آن واحد. مكافحة الفساد جزء من تلك الخطة وتستدعي بدورها خيارات سياسية تحصّنها. فعلى صعيد السياسات هناك ضرورة حسم الموقف من العلاقة مع الغرب. لقد أشرنا في أماكن عديدة إلى أنّ مستقبل المنطقة بشكل عام وخاصة في لبنان هو التوجّه إلى الشرق، بدءاً بالشقيق الجار أيّ سورية ووصولاً إلى تكامل وتشبيك سياسي واقتصادي مع الكتلة الأوراسية بشكل عام ومنظومة شنغهاي بشكل خاص. قد يكون ذلك التوجّه فوق قدرات الطبقة الحاكمة في لبنان التي ما زال بعض أعضائها يراهن على «قوّة» الغرب وامتلاكه لقرار التمويل. هذا رهان خاطئ ولكن يستدعي بعض الوقت حتى يتمّ استيعاب تلك الحقيقة من قبل تلك الأطراف.

القرار الثاني هو قرار التخلّي عن ذهنية الاقتصاد الريعي المبني على الاستدانة المرتفعة كلفتها والتي يستفيد منها بشكل رئيسي القطاع المصرفي والمالي في لبنان دون ان تحوّل الأموال إلى تمويل القطاعات الإنتاجية ومنها الخدمات ذي القيمة المضافة المرتفعة وغير منتجة لريع كالوساطات المالية في الهندسة المالية المصطنعة أو عبر إصدار أوراق مالية دون ربطها بالاقتصاد الفعلي. سندات الخزينة بشكلها الحالي مثال على ذلك على أمل أن تكون وسائل تساهم في تمويل مشاريع حيوية ومنتجة. ومن تداعيات ذلك الخيار مراجعة سياسة الاستدانة لغير أغراض التنمية والإنتاج. في هذا السياق لدينا قراءة مختلفة عن مشروع قرارات «سيدر» التي ستجعل قطاعات واسعة من المرافق العامة تحت قبضة القطاع الخاص وهذا ما نعترض عليه بشدّة. هذه القرارات تأتي تحت عنوان «الإصلاح الاقتصادي» الذي تروّج له المؤسسات الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي والمصرف الأوروبي للاستثمار وبطبيعة الحال وزارات الخزينة للدول الغربية. الحجّة هنا أنّ القطاع العام «يهدر الأموال ولا يدير المرافق بكفاءة» وهذه حجة مردودة على أصحابها لأنّ في الإدارة كفاءات عالية معطّلة يجب تفعيلها وتمكينها ويمكن دعمها من الخزّان الكبير الذي يشكّله اللبنانيون لإعادة بناء دولتهم على قاعدة سليمة.

وهنا القرار الثالث وهو عدم التسليم بحتمية الخصخصة كشرط ضروري للإصلاح الاقتصادي. هذا ملفّ كبير يفوق المساحة المتاحة في هذه المقاربة لكن نكتفي بأنّ الخصخصة هي تمكين الاوليغارشية المحلّية التي حكمت لبنان منذ الطائف وأوصلت لبنان إلى ما هو عليه الآن والتي سيشاركها الأجنبي تحت غطاء الشراكة الاستراتيجية مع الشركات صاحبة الكفاءات التقنية التي يفقدها لبنان على حدّ زعمهم. فالخصخصة هو طريق التسلّل إلى استيلاب استقلالية القرار الوطني. قد يعتبر البعض أنّ تلك الاستقلالية فقدت بالارتباط بجهات عربية خليجية وغربية مقابل ارتباط بسورية وبالجمهورية الإسلامية في إيران. لن ندخل في ذلك النقاش العقيم بل نكتفي بالقول إنّ ما يسمّى بـ «الارتباط» بكلّ من سورية والجمهورية الإسلامية في إيران ساهم في تحرير القسم الأكبر من جنوب لبنان وساهم في حماية لبنان من أيّ مغامرة صهيونية بينما الارتباط بالغرب وبعض الدول الخليجية كرّس الاحتلال الصهيوني. فأصحاب الاستقلال الفعلي هم من حرّروا الأرض وأصحاب الاستقلال المزيّف هم من ارتبطوا بالغرب. وهذا الغرب، على سبيل المثال، يساهم في تفاقم الأزمة الاقتصادية الاجتماعية عبر وضع العراقيل لحلّ مشكلة النازحين السوريين وعدم التنسيق مع الدولة السورية بحجج واهية. وهذا الغرب مع أتباعه في لبنان هو الذي يغذي العنصرية تجاه كلّ عربي وفي مقدّمتهم السوريون والفلسطينيون. لذلك نقول إنّ الخصخصة في لبنان إما ستؤدّي إلى تمكين أكبر للأوليغارشية في لبنان في الحدّ الأدنى، وهذا غير مقبول، أو إلى تسلّل الأجنبي في الحدّ الأقصى وهذا مرفوض كلّيا.

القرار الرابع هو إعادة هيكلة الدين العام عبر تنازلات تقع على الدولة أولاً وعلى القطاع المصرفي ثانياً وليس على المواطنين الذين هم ضحية سياسات خاطئة ارتكبتها الطبقة الحاكمة مع القطاع المصرفي. والخطوط العريضة لهيكلة الدين تكمن في سلسلة من الإجراءات كتوحيد كلّ الدين العام وتحويله إلى دين طويل المدى 25 أو 30 سنة مع فائدة منخفضة 1 أو 2 بالمائة واستحقاقات بالدفع تبدأ بعد 5 سنوات مثلاً. وبما أنّ القطاع المصرفي مرتبط عضوياً بالسياسة المالية للدولة عبر حمل سندات الخزينة مع مصرف لبنان فلا بدّ من الانتباه إلى أنّ إعادة هيكلة الدين العام ستؤثر سلباً في ربحية القطاع المصرفي بشكل عام قد يؤدّي في آخر المطاف إلى المزيد من التمركز في عدد المصارف العاملة في لبنان. ليس هناك من مبرّر لوجود عشرات من المصارف في لبنان حيث الناتج الداخلي لا يتجاوز 65 مليار دولار على أحسن تقدير بينما في بلاد الحرمين يصل الناتج الداخلي إلى أكثر من 650 مليار دولار وعدد المصارف لا يتجاوز عدد الأصابع في اليدين؟!

القرار الخامس هو إعادة الاعتبار للقضاء اللبناني الذي تمّ تهميشه منذ 2005 من قبل النخب الحاكمة آنذاك دون خجل أو «رفّ الجفن» فأنتجت بدعة «المحكمة الدولية الخاصة بلبنان» في إشارة واضحة لاحتقار القضاء اللبناني وسكون معظم الحقوقيين اللبنانيين على ذلك! فاستقلالية القضاء هي الشرط الأساسي لتفعيل مكافحة الفساد بعيداً عن التجاذبات الطائفية والمذهبية. كفاءة العديد من القضاة اللبنانيين مشهودة ولكن تمّ تعطيل القضاء بقرار سياسي من قبل الطبقة الحاكمة. فهل هناك من إميل لحود قضائي يعيد الاعتبار للقضاء كما أعاد العماد لحود الاعتبار للجيش فكرّس المعادلة الذهبية الشعب والجيش والمقاومة؟ فهل يمكن أن نتصوّر معادلة أخرى مماثلة كالشعب والقضاء والمقاومة؟

بالنسبة للضغوط على لبنان بحجة وجود حزب الله داخل الحكومة فلدى الأخيرة أوراق عديدة يمكن استخدامها منها تخفيض التمثيل الدبلوماسي للدول الضاغطة على لبنان. والتهديد بقطع المساعدات عن الجيش اللبناني، وهي هزيلة مقارنة بما يحتاجه الجيش اللبناني، فإنّ البدائل جاهزة وتطلّب فقط قراراً من الحكومة. كما أنّ هناك أوراقاً أخرى يمكن مناقشتها مع المعنيين إذا ما برهنت الحكومة عن رغبة، وقدرة، وكفاءة بالمضيّ في تحصين استقلالية القرار السياسي والاقتصادي اللبناني. والقرار الحكومي لن يتحقّق إلاّ بضغط شعبي واسع لذلك فإنّ القطاعات النقابية والطلاّبية والأحزاب والقوى الوطنية مدعوة لممارسة ضغوط كبيرة على أصحاب القرار عبر اعتصامات وتظاهرات داعمة لحملة مكافحة الفساد.

هذه هي بعض القرارات التي يجب اتخاذها في أسرع وقت ممكن. لكن هل ترغب الحكومة اللبنانية بتركيبتها الحالية اتخاذ قرارات كهذه؟ وإذا رغبت، فهل تستطيع؟ هذا ما نتمنّاه عسى أن تكون أمنياتنا بعيدة عن الخيال!

كاتب وباحث اقتصادي وسياسي وأمين عام سابق للمؤتمر القومي العربي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى