الموسيقيّة الفنانة ليال شاكر: كلّ إيقاع يعيش عصره والتجديد لا يعدو إلا أن يكون نظرة الجيل الجديد لتراثه وهويته

حاورتها: رنا صادق

«لو لم أكن فيزيائياً من المحتمل أن أصبح موسيقياً.. غالباً ما أفكر بالموسيقى.. أحلام اليقظة لديّ موسيقى وأنظر إلى حياتي بدلالة الموسيقى.. أجمل أوقاتي هي تلك التي أقضيها بالعزف على الفيولون».

أراد ألبرت اينشتاين من هذا القول أن يعزم على تهذيب الموسيقى لروحه، لا بل سطّر بالموسيقى ملحمة حياته حتى يدلّ على إنسانيته، وجاء الفيولون على رأسها. فهل حاولتم سابقاً أن تروا حياتكم من دلالة النغم والموسيقى؟

الفيولون تلك الآلة الحادة بالشكل كثيرة الضوضاء في الروح ومفعمة بانسيابية المعنى والشعور، تتلمّس نوتاتها تارة هدوء العواطف وتارة بصخب الشعور والذكرى. ليست مجرد النوتة التي تعزف على وتر النبض، ما بين النغم العالي والخافت يتأرجح السامعون في فضاء خيالاتهم.

هديل الصوت الساكن في شظايا الروح وغربة الفراق وبعد الأحباب هي تلك حكاية شابة موسيقية عزمت على النجاح وثابرت لإطلاق مشروعها الخاص، لتحقق بذلك ما لم يكن في الحسبان، ووصلت حتى ازدادت إيماناً أنها بالموسيقى والعزف ستصل إلى برّ الأمان وتترجم خبايا الإنسان وعلاقاته وانكساراته ونجاحاته وتجاربه من خلال لحن أوتار كمانها.

هي الموسيقية، الشابة ليال شاكر، التي ابتعدت عن وطنها تاركة أهلها ومحيطها حتى تكمل دراستها الموسيقية ومشواره الفني.

حلم ليال بدأ بطموح كبير وعزيمة قوية، لا تتراجع عن نوتاتها ولا تنفكّ عن الوتر، مصمّمة أن ما بين الحداثة والكلاسيكية خيط رفيع، هو الهوية. الهوية هي بطاقة تعريف كل عمل فنيّ، يعطيه فرادة ونكهة تختص بكل فنان أو موسيقي، وهي التي تحافظ على الجذور. الجذور… هي المعنى التي تتركه أصالة الأماكن ونفوس الأشخاص والمبادئ القومية لكل جماعة، وهذه الجذور أعطت ليال حافزاً لتقديم مزيج من اللحن الغربي بصبغة شرقياً متجذرة، ترجعك إلى الزمن الجميل بنكهة شباب العصر.. وإن شئنا يمكن تسمية ما تقدّمه ليال «النغم المنفتح».

صغّرت المسافة وقرّبت الزمان، استنبطت من شعر الحداثة والمحكيّة لغة جديدة، دون كلام، عبر الأوزان الشعرية لتلقيها في كادر موسيقي جديد على آلتها الوترية.

موسيقى الفيولون متشعّبة، أجزاء وتفاصيل خاصة به، بين النغم العالي الضخم والنغم الخافت الصادر من أوتاره يسبح سامعوه في خيالات الماضي للوصول إلى خيال المستقبل بريشتهم الخاصة.

«البناء» كان لها لقاء خاص مع الموسيقية الفنانة ليال شاكر، للتعرف أكثر على علاقتها مع آلة الفيولون ومشوارها الذي خاضته وصولاً إلى تأليف فرقتها الخاصة «صرفند».

عازفة، ملحنة… وحالمة

يشاع الحديث دائماً عن مضمون اللوحة الفنية لرسّام ما أو القطعة الموسيقية لعازف ما، دون إهمال الشكل النهائي والأخير لتقييم القيمة الفنية لكل عمل، وتأتي القيمة هذه من خلال مجموعة ثوابت، كوضع الفنان العام، هويته، جذوره، طموحه وعزيمته… وليال صاحبة الطموح والعزيمة لا تقبل التجزئة أو أنصاف الأمور، بل تقود بكل دافع هذه الرسالة التي تحملها في قلبها وإيمانها.

هي التي ترعرعت وسط عائلة تقدّر وتحترم الفنّ، كان لوالديها دورٌ في التوجّه نحو الموسيقى، فوالدها بسط أمامها المقدرة والإلحاح على الوصول ووالدتها شجعتها على الدخول إلى معهد الموسيقى بعدما دمّرت الحرب كل ما بقي من روح الفنّ. هذه الخلفية التي ساعدتها لم تستطع مرارة الغربة أن تنسيها نفسها، أن تبعدها عن هويتها، ووطنيّتها.

فتقول: لم أعمد على دمج بين الموسيقى الغربية والقصيدة العربية بل شعرت أن فنّي ناقصٌ يحتاج لأناي، للخروج من النطاق الكلاسيكي المعتمد دائماً، لذلك قررت أن أقوم بما أقتنع به حتى أكون كاملةً بفنّي وراضية. الدمج بين هويتي والموسيقى الغربية الكادر الغربي في المقطوعات ما هو إلا تطور طبيعي لمجرى الأمور في مسيرتي. إضافةً إلى أن في عملي الفني وجذوري الفكرية والثقافية لا مكان للتناقض بينهما، ولم أكن لأكمل لولا هذا التطور والارتباط.

صوت اللغة على نغم النوتة

تجهد ليال بعملها ليس فقط على هيكيلية اللغة العربية بعيداً عن المعنى عبر الإيقاع، أي صوت اللغة وحوّلت بذلك البحور الشعرية القديمة، وتقوم بتلحين الموسيقى تخصّص أماكن تنفّس باستخدام الارتجال، بذلك تقدّم لحنا جديداً بعمر شعر قديم بقولبة فريدة.

الموسيقى تتشكل حسب الناس وظروفهم في كل عصر، فتأخذ سماتهم وتحكي لغتهم، لذا فمزجي بين الحضارات والمسافات وبين الماضي والمستقل هو سمة تميّز العصر.

القيمة الفنيّة للنوتة الموسيقيّة طرح دسماً للنقّاد الذين يعتبرون أن الكلاسيكية هي التعبير المجرّد والحقيقي للأنغام بينما يرى البعض الآخر أن في الحداثة لغة العصر، حيث تعتبر ليال أن طرح المقطوعة بإيقاع جديد هو تجديد لمواكبة العصر، فالتراث سيبقى تراثاً، هي طريقة للشباب للتعبير عن نظرتهم لتراثهم بنظرة اليوم، وهو ما أقوم به اليوم.

هذا الدمج هو طريقة تواصل مع العالم بأكمله.

الفيولون من الآلات الموسيقية التي تحتاج إلى مجهود كي تعطي الصوت المطلوب، فعازف الفيولون عليه دائماً الالتزام لها بحسب ليال. فهي تربّت على احترام الآلة والنوتة على يد أساتذتها في المعهد العالي للموسيقى.

قوافي الباطن

ألبومها الجديد حمل عنوان تفاعيل، كناية عن معزوفات موسيقيّة لشعر حديث وكلاسيكي بكادر متجدّد، وتقول عنه: «تفاعيل» جاءت العنونة نسبةً إلى العروض البيوت الشعرية تفعيلات وهي قوافي الباطن. فيه أشعار للماغوط، توفيق زياد ومحمود درويش إضافةً إلى الزجل والشعر المحكيّ.

«الصرفند»… ذكرى المكان

وشكلت شاكر فرقة «الصرفند» من عازفي آلات وترية، تقوم دائماً بدعوة فنانين عالميين. اختارت اسم «الصرفند» نسبةً إلى بلدة الصرفند في الجنوب اللبناني والصرفند في شمال فلسطين التي هجّرت.

مسرح زقاق

تشارك ليال اليوم في بيروت في عمل لمسرح «زقاق»، وتقول: أقوم بكتابة الموسيقى لعرض «أميال الغالية» وسيكون العرض من 23 آذار حتى نهاية الشهر. هذه تجربة موسيقية بحدّ ذاتها من خلال الدمج الكثيف للموسيقى مع المسرحية. والمسرحية تحاكي قصة فتاة قررت الهروب من لبنان لأنها سمعت أن النساء في أوروبا يتمتعن بقدر كبير من الحرية، ومروراً بمعظم بلدان الجوار لكل محطة تقابلها تجربة معينة وسط أحداث جميلة.

ليال شاكر في أسطر

درست ليال في المعهد الوطني العالي للموسيقى في لبنان، ثم انتقلت لمتابعة دراستها الموسيقية في معهد باريس والأكاديمية الملكية للموسيقى في لندن. توجّهت نحو الأدب والفلسفة كاختصاص.

لعبت عازفة منفردة مع الأوركسترا في جميع أنحاء العالم مثلاً: هولاند، باروك، وأكسفورد أوركسترا، وبابل أوركسترا. أنشأت مجموعتها الخاصة «صرفند» في عام 2017.

جوائز: جائزة «Diaphonique 2019» ، وجائزة «Nadia» و Lili» Boulanger 2019» ، ومسابقة «Ruth Anderson 2017» ، وجائزة «Guinness» للأكاديمية الملكية للموسيقى لعام 2018 ، وأخيراً جائزة «Rolex Mentor» و «Prot g 2018».

وتستحق الموسيقية الحالمة الواعدة ليال، أن تتألق بالمزيد من قمم النجاح ولا تقفِ عند حدود الحواجز والقيود، لتكون كما تؤمن متحررة من القيود والعوائق..!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى