الكتل السياسية اللبنانية مدعوّة للعودة الى وطنها…

د. وفيق إبراهيم

السياسات مصالح مع القليل من الإخلاق، هذا إذا كانت ضرورية لإضفاء الأنسنة على التوحش.

انطلاقاً من هذه المسلّمة المسيطرة على التفاعلات العالمية منذ قرون عدّة فإن الكتل السياسية اللبنانية مدعوة وبإلحاح للدفاع عن مصالحها أولاً؟ وهذه المصالح موجودة في وطنها اللبناني.

فإذا انفجر لبنان على مستوى كيانه السياسي أو لجهة دولته فهذا يستتبع تلقائياً انهياره وانفراط عقده واضمحلال كتله السياسية وتيتّمها وذلك لاختفاء المدى الذي تسيطر على مضاميره.

لبنان اليوم مهدَّدٌ من تدابير أميركية بين خيارين اثنين ليس لهما ثالث: تدمير حزب الله أو خراب لبنان، علماً أن الخيارين شديدا الترابط، فإذا انتكس حزب الله تضعضع لبنان وأصبح فريسة لـ»إسرائيل» تنتهك ارضه وغازه ونفطه كما تفعل في كل الدول المجاورة وفلسطين الـ 48 و1967. تذكروا كيف ابتلعت غاز سيناء ثمناً لانسحابها منها ظاهرياً؟

أما الخيار الثاني فمعناه تفجير حكومة سعد الحريري والدخول في فراغ دستوري جراء العجز عن تشكيل حكومة ميثاقية جديدة هي ضرورية في هذا الزمن المذهبي الرديء والبغيض.

ماذا يجري؟

بعد دفقٍ من موفدين حكوميين ودبلوماسيين أميركيين توالوا على لبنان في العشرين يوماً الفائتة لعرض المطالب الأميركية من لبنان، وصل أخيراً الى بيروت وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو لتأكيد «الأوامر» الأميركية التي نقلها الى المسؤولين اللبنانيين، الموفدون الأميركيون الذين سبقوه قبل أسابيع عدة.

لم يطرح بومبيو جديداً على السياسات الأميركية المعروفة سلفاً. وتلخّصت بعنوان كبير هو تدمير حزب الله والمشاركة في استنزاف الدولة السورية وحصار إيران وتفجير لبنان.

هذه هي العناوين العريضة التي تكشف أن السياسات الأميركية لا تستهدف حزب الله منفرداً بل تريد القضاء أيضاً على المشروع الأساسي الذي يُصيب المسيحيين اللبنانيين بقلق تاريخي من احتمال تهجيرهم إلى أقصى الأرض لتوطين الفلسطينيين والسوريين بدلاً منهم في وطنهم اللبناني التاريخي.

لذلك بدأت حركة بومبيو محاولة استباقية للقضاء على أهداف زيارة الرئيس ميشال عون إلى روسيا المرتقبة بعد أيام عدة.

والهدف الرئيسيّ لهذه هو الزيارة الدفع باتجاه تأييد العملية الروسيّة لإعادة النازحين السوريين إلى بلادهم ووضع دعائم لعلاقات روسية لبنانية تجمع بين الاقتصاد والسياسة.

وهذا ما لا يريده الأميركيون مطلقاً ويرون فيه انقلاباً على الولاء اللبناني التاريخي للغرب.

لذلك فإن الأميركيين منزعجون من العماد عون والكنائس المسيحيّة وبعض التيارات السنية والدرزية المشجّعة ايضاً على عودتهم انما في الأبعاد نفسها التي يعمل عليها حزب الله والمتعلقة بدعم الدولة السورية وتوفير استقرارها وازدهارها.

هذه النقطة تهدّد جدياً بتفجير حكومة « السعد» لأن الأميركيين تمكنوا من جمع فريق لبناني سياسي مدعوم منهم ومن السعودية يرفض عودة النازحين متمسكاً بهم، لأنه «خائف عليهم» كما يزعم.

فهل هناك في مشارق الأرض ومغاربها فريق سياسي يبني سياساته الداخلية على أساس مصالح ارتباطاته الخارجية إلا في بلد العجائب والغرائب لبنان؟ هناك أحزاب سياسية تتحالف مع الخارج في كل بلاد العالم لكنها تسقط شعبياً عندما تلتزم حرفياً سياسات هذا الخارج المتناقضة مع مصالح شعبها فتصبح «عميلة» وليست مجرد معارضة؟

لجهة مكامن النفط والغاز عند الحدود البحرية مع فلسطين المحتلة تلقى بومبيو رفضاً لبنانياً قاطعاً بالتنازل لـ»إسرائيل» عن بضع مئات من الكيلومترات المربعة من حدوده، ما يضع حداً لوساطة أميركية منحازة لـ»إسرائيل». وما نموذج الجولان السوري المحتل الا الجزء اليسير من تأييد أميركي مفتوح لـ»إسرائيل»، الأمر الذي يعني إمكانية تدحرج الموقف اللبناني الصارم نحو نزاع عسكري مع «إسرائيل» يُمسك حزب الله برأس حربته، فليس معقولاً أن تبدأ «إسرائيل» بالحفر في مناطق لبنانية ويسكت لبنان عن انتهاكاتها؟

ماذا لجهة تدمير الدور السياسي لحزب الله كما تصرّ السياسة الأميركية؟

هناك كتل سياسية لبنانية تعتقد ان تأييدها لمطلب الأميركيين بالتصدّي لحزب الله قد يصل حدود إنزال عسكري أميركي في لبنان، فلو كان بمقدورها فعل هذا الأمر لما بذلت جهوداً لتجميع سياسيين لبنانيين في إطار جبهة لعرقلة تقدّم الحزب وهي التي تعرف أن حلفاءها اللبنانيين ليسوا إلا أشكالاً وأبواقاً وتنازلات.

فهل يذهب الأميركيون الى مزيد من العقوبات على حزب الله وتحالفاته بما يؤدي الى نسف حكومة «السعد»؟

إنهم ذاهبون نحو هذه الوجهة لدعم تحالفاتهم السياسية في صراعها مع حزب الله ولا تنقصهم المعرفة بأن مثل هذه العقوبات قد تمهّد لتفجير الحكومة وإصابة العمل الدستوري بشكل كامل فيمنعون بذلك إقرار خطة حكومية رسمية لعودة النازحين السوريين الى وطنهم سامحين لـ»إسرائيل» بسرقة الاحتياطات من النفط والغاز من داخل الحدود البحرية اللبنانية، هذا بالإضافة الى وقف الدور الصاعد لحزب الله في الدولة اللبنانية والمجتمع.

هذا هو المشروع الأميركي المتكئ على العقوبات الجديدة على الحزب، وهذا طبيعي مع حزب أسهم في تراجع الإمبراطورية الأميركية في المنطقة، لكنه ليس طبيعياً مع كتل سياسيّة لبنانية تطبق في بلدها سياسات أميركية سعودية وتغضُ الطرف عن العدوانية الإسرائيلية الى حدود خطيرة.

فهل تستيقظ هذه الكتل؟ وتعتبر أن مصالح اللبنانيين فوق كل الاعتبارات الشخصية لقياداتها؟ فمتى تعود إذاً إلى وطنها من «الغربة» السياسية والفكرية والتمويلية التي تستوطنها؟ فحزب الله موجود منذ 1982 كقوة عسكرية وسياسية وطنية بامتياز وعربية بتفوق فلا تغامروا في معركة هي خاسرة سلفاً وعودوا الى لبنان الذي بحاجة لاتحاد سياساته في سبيل توفير المناعة والازدهار لشعبه المجاهد.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى