تقنيات القصة القصيرة جدًا

دريّة كمال فرحات

تثير القصة القصيرة جداً الكثير من التّساؤلات حول أركانها وتقنياتها، التي من خلالها نستطيع أن نضع الحدود بينها وبين الأجناس المتشابهة لها. وفي هذا المجال يرى دوسسير أنّ النّوع يتحدّد قبل كلّ شيء بما ليس واردًا في الأنواع الأخرى.

ويمكن القول إنّ ما يتعلّق بأركان القصة القصيرة جدّاً يتمثّل بالحبكة السرديّة، والدهشة، ووحدة الفكر والتكثيف. أمّا التّقنيات فتتمثل في خصوصية اللغة والانزياح والمفارقة والتناصّ والترميز والأنسنة والسخرية والمفارقة والتنويع في الاستهلال والاختتام. والقصة القصيرة جدّاً لا تحقّق نجاحًا ملموسًا إلّا إذا تواشجت الأركان والعناصر عضويًّا مع بعضها أوّلًا ومع التقنيات ثانياً.

وتشكّل التّقنية محفّزًا فعّالًا في خصوصية الحبكة والسرد، فهي مضمون الدّال والمدلول اللذين يتواشجان لتنامي الحدث القصصي، وقد تحتاج القصة إلى تقنية أو أكثر، فتضمر إحداها لخدمة أخرى وتدخل في تضاعيفها. ومن المهم أن نقدّم تفصيلًا لأهمّ هذه التّقنيات التي يمكن توظيفها في بناء القصة القصيرة جدًا.

التّناصّ:

يتجلّى التّناص عند رولان بارث في أنّه يمثل تبادلًا، وتفاعلًا بين نصين أو نصوص عدّة، في النّصّ تلتقي نصوص عدة تتصارع يبطل أحدها مفعول الآخر وتتساكن، تلتحم، تتعانق، إذ ينجح النص في استيعابه للنصوص الأخرى. أمّا جوليا كرستيفا فتحدّد المفهوم بأنّه «ترحال للنّصوص وتداخل نصيّ في فضاء نصّ معين، تتقاطع ملفوظات عديدة مقتطعة من نصوص أخرى»، وهذا ما يجعل النّص مجموعة من الاقتباسات المجهولة المقروءة والاستشهادات الاستنتاجيّة وهي التي تضمن إنتاجيّة النّص وممارسته الدّالة عبر نسيجه المتشابك. وتستطيع القصة القصيرة جداً الاستفادة من التّناص من منطلقين الكاتب والمتلقي، فالتّناص يسمح للقاص التّعامل مع نصه بصورة مفتوحة وتمنحه حرية بالتّحرّك، أمّا المتلقي فيجد فيه دلالة لكشف ما وراء النّصّ متكئًا في ذلك على وعيه، وما يملك من مخزون ثقافيّ. فالقصة القصيرة جداً لا تكتسب قيمتها الدلاليّة والقرائيّة إلا عن طريق التّناص. بمعنى أنّها قصة التناص بامتياز لأنّها تثير فضول القارئ، وتدفعه إلى ممارسة التّخييل والتّحليل والتّأويل، وملء الفراغات البيضاء.

وللتّناصّ دلالتان: الدّلالة الأولى جماليّة تمنح القصة القصيرة جداً توهّجًا وعمقًا وخصبًا وانفتاحًا على الكثير من الاحتمالات والرّؤى، والدّلالة الثانية هي المعرفة الثقافيّة التي تدفع المتلقي لقراءة النّصوص القديمة وبعث الحياة فيها عبر العلائق القائمة على التّلاقي أو التّعارض أو التّكثيف أو التّوسيع.

ويستطيع القاص استخدام التناص إمّا في العنوان أو المتن. وتناصّ العنوان علامة دلاليّة للقصة القصيرة جداً، فالعنوان يختزل مضمون النصّ القصصيّ، وقد يدفع المتلقي إلى التّفكر والتّخيّل. أمّا تناصّ المتن فقد يكون وفق التّناص الدّينيّ والأسطوريّ والتاريخيّ والأدبيّ.

الأنسنة:

الأنسنة ظاهرة أدبيّة يوظّفها الأدباء للتّعبير عن مشاعرهم عبر خلع صفات الإنسان على أشياء أُخر، يحاكون فيها واقعًا يؤلمهم، أو شوقًا يؤرقهم، أو غير ذلك من المشاعر، وعبر الأنسنة نضفي صفات الإنسان على غير الإنسان سواء أكان محسوسًا ملموسًا أم معنويًّا ذهنيًّا. وعندما يخلع الإنسان صفاته الإنسانيّة على الخارج فإنّه يربط المكوّنات الأخرى بداخله ونفسيته. وهكذا تقوم الأنسنة في القصة القصيرة جداً على أنسنة الجماد والحيوانات تشخيصًا واستعارة، ومفارقة وتتحوّل الحيوانات أو الجمادات التي تتضمنّها القصة القصيرة جداً إلى أقنعة بشريّة رمزيّة. تحمل دلالات إنسانيّة معبّرة. فهي بمثابة عوامل سيمائيّة فاعلة في مسار القصة وذلك بأبعادها المرجعيّة والرّمزيّة.

التّرميز:

توظيف الرمز في القصة القصيرة جداً سمة يتّصف بها الكتاب على مستويات متفاوتة، من حيث الرمز البسيط إلى الرمز العميق إلى الرمز الأعمق.. وهكذا. ومع أن الرمز أو الترميز في الأدب عموماً سمة أسلوبية وأحد عناصر النص الأدبي الجوهرية منذ القدم إلا أننا نراه قد تنوّع وتعمّق وسيطر على لغة القصيدة الحديثة وتراكيبها وصورها وبنياتها المختلفة، والرمز بشتى صوره المجازيّة والبلاغيّة والإيحائيّة تعميق للمعنى، ومصدر للإدهاش والتّأثير، وإذا وظّف الرمز بشكل جماليّ منسجم، واتساق فكري دقيق مقنع، فإنّه يسهم في الارتقاء بعمق دلالاتها وشدة تأثيرها في المتلقي، واللجوء إلى التّرميز جاء لأسباب متعدّدة منها الضغوط الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة أو دلالة أبعاد نفسيّة خاصة في واقع تجربة الكتّاب الشّعوريّة. وتختلف الرموز في القصة القصيرة جداً منها الطّبيعيّة، والتاريخيّة والأسطورية والفانتازيّة، والمكانيّة والسيمائيّة. والغالب أن يكون النص رمزيًّا غير مباشر لأتاحة الحرية عند المتلقي في التّصور والتّأويل. فالتّرميز يمتلك قدرة كبيرة على الإيحاء الذي يشير إلى معنى آخر وموضوع آخر وعوالم لا حدود لها من المعاني، وتتحوّل الكلمة إلى رمز حسن تعني أكثر من معناها الواضح المباشر إذ إن لها جانبًا باطنيًّا أوسع، فلا يحدّد بدقة ولا يفسّر تفسيرًا تمامّا بحيث يأمل المرء تحديده أو شرحه كما هو.

الانزياح:

الانزياح هو خروج من المألوف، وهو الخروج من المعيار لغرض يقصد إليه المتكلّم، وقد يكون من دون قصد، غير أنّه في كلتا الحالتين يخدم النّصّ بشكل أو بآخر. ويعمل الانزياح على استعمال اللغة مفردات وتراكيب وصور استعمالًا يخرج بها عمًّا هو مألوف بحيث يؤدّي ما ينبغي له أن يتّصف به من تفرّد وإبداع وقوة وجذب وأسر. وهو تقنيّة تكثيفيّة لا غنى للقصة القصيرة جداً عنها، وبحضور الانزياح تحضر أمور كثيرة منها التوتر والصّراع مع حركة ديناميكيّة في النصّ. والانزياح يساهم في تحقيق التكثيف في القصة القصيرة جدًا، ويوسّع آفاق النصّ القصصيّ.

تقنيات اعتمدتها القصة القصيرة جدًا وهي وإن تشابهت في بعضها مع الأنواع الأدبيّة الأخرى، فإنّها باستنادها إلى التّكثيف المستند إلى لغة تمتاز بالإيحاء والدلالات المشعّة، ويرافقها المفارقة الناتجة عن جريان حدث بصورة عفويّة على حساب حدث آخر هو المبتغى في الختام، والخاتمة التي تُعدّ الغاية والهدف في القصة القصيرة جدًا، وفيها التّحفّز والإدهاش. تقنيات تجعل من القصة القصيرة جدًا مولودًا جديدًا ينشد التجاوز والتماهي مع متطلبات العصر.

أستاذة جامعية وشاعرة عضو في منتدى الأدب الوجيز

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى