تحية للجيش الجزائري

ناصر قنديل

– في خصوصية تصعب مقارنتها بحالات أخرى لبلاد عربية شهدت حراكاً تحت عنوان التغيير السياسي فشلت محاولات أخذها نحو الفوضى السياسية والأمنية لعب الجيش الجزائري دور صمام الأمان وضابط الإيقاع وبيضة القبان، دون أن يقوم بتولي السلطة مباشرة ودون أن يكون سنداً للسلطة بوجه الحراك الشعبي المنطلق من تعب وإنهاك التمديد والتجديد للرئيس عبد العزيز بوتفليقة لولاية خامسة وهو في حال صحية تصعب معها عليه ممارسة السلطة، ودون أن يستقيل من المسؤولية القيادية تاركاً لتوازن الشارع واللاعبين المستترين الداخليين والخارجيين التحكم بمسار الأحداث.

– نجح الجيش الجزائري بالتدخل وفقاً لمنطق الجرعات التنشيطية لفرض استجابة الرئيس بوتفليقة ومساعديه والفريق المساند لبقائه والمستفيد من هذا البقاء، لسقوف وطنية للحراك الشعبي، عنوانها حفظ المكانة الوطنية للرئيس بوتفليقة، وقطع الطريق على الحاشية الفاسدة والمستفيدة من استغلال التمديد والتجديد لولايته الرئاسية لفرض هيمنتها على المشهد الجزائري، كما نجح بربط الحراك الشعبي بعناوين مفتوحة على سلوك الطرق الدستورية للتغيير، رغم محاولات بعض المعارضة وقادتها دفع الحراك نحو شعارات عبثية من نوع الدعوة لرحيل النظام والرئيس بلا بدائل دستورية تلتزم الانتقال السلمي للسلطة، فقطع الطريق على الفوضى التي تبدأ سياسيّة وسرعان ما تتحوّل وتنتهي فوضى أمنيّة تفتح الباب لمشاريع التفتيت والتقسيم وحضور العصبيات وطغيانها على الحال الوطنية.

– رفض الجيش الوقوع في إغراء وضع اليد على السلطة، وما كان سيرتبه ذلك من جعله هدفاً مباشراً لمواجهة تحاول تحريك الشارع بوجهه، كما كان مرسوماً لو تبنى الدفاع الأعمى عن موقف المحيطين بالرئيس، فشكل ترفعه وتميّزه معاً ضماناً لبقائه معصوماً بنظر الشارع عن الخطيئة التي تبعده عن صفة الوطنية ومكانة الشرف التي يتبوأها في الوجدان العام للجزائريين، فمكّنه ذلك من حماية الوحدة الوطنية كواحدة من الثوابت، ومن تحصين فكرة الدولة ومؤسساتها الدستورية بوجه خطر الانحلال الذي يحضر بقوة في مثل هذه الحالات، ونجح بتشكيل عمود فقري لعمل أمني كبير حمى المتظاهرين وحفظ سلميّة الحراك، وسيطر على كل التحرّكات الجارية تحت الطاولة لفرض مشاريع أمنية تراهن على تعميم الفوضى.

– الجزائر كدولة عربية مفصلية بحجمها واقتصادها وتاريخها، تقع تحت عين الكثيرين من المتربّصين بثرواتها، وموقعها الاستراتيجي، وقد وفّر الفساد وتكلّس النظام السياسي فيها فرصة ذهبية لمخططات هؤلاء المتربصين، سواء في الداخل أو من الخارج، وقد ساهم دور الجيش الجزائري مع خبرة الفئات الشعبية والنخب التي وقفت في قلب الحراك من موقع وطني وفي لتاريخ الجزائر وموقعها بوجه المشاريع الأجنبية، ووفي لتاريخ تضحيات الجزائر بوجه مشاريع الحرب الأهلية، في تفادي تكرار مشاهد شهدتها البلدان التي عرفت النماذج السوداء للربيع العربي، قدمت تأكيداً إضافياً على الدور المحوري للجيوش الوطنية في حماية المسارات الدستورية، وحفظ الثوابت الوطنية، وصيانة الوحدة الوطنية وفرض حتمية سلوك طريق التحوّلات السلمية على الحياة السياسية.

– في ثلاث مراحل تاريخية لعبت الجزائر دور النموذج، فكانت الجزائر التي قدّمت المدرسة المثالية المتقدّمة لمناهضة الاستعمار، وكانت الجزائر أول مَن أحبط في التسعينيات مشاريع الفوضى الأهلية قبل نماذج الربيع العربي الجديدة، وها هي اليوم الجزائر تتقدّم مسار الانتقال السلمي والدستوري في ظل حراك شعبي مليوني لثورة بيضاء يحميها الجيش ويمنع الاستيلاء عليها وتوظيفها في مشاريع داخلية وخارجية مشبوهة، ويفرض كضابط إيقاع وبيضة قبان سقفاً يُبقي للسياسة والتغيير مرادفاً هو المصلحة الوطنية العليا.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى