«القدس خطّ أحمر»… الأردن والصحوة المتأخرة!

إنعام خرّوبي

في ثاني أكبر المدن الأردنية الزرقاء، ذات الغالبية السكانية من ذوي الأصول الفلسطينية، وأمام وجهاء المدينة وكبار المسؤولين فيها فجّر العاهل الأردني عبدالله الثاني غضبه، معلناً أنّ ثمة ضغوطاً تمارس على بلاده، من جهات لم يسمّها، بسبب تمسُّكها بالقدس وأنها لن تغيّر هذا الموقف ما دام على قيد الحياة.

«عمري ما راح أغيّر موقفي من القدس، بغضّ النظر عما يقوله الآخرون، نحن لدينا واجب تاريخي تجاه القدس والمقدسات»، قالها عبدالله الثاني بعد أيام على زيارة قام بها إلى الولايات المتحدة أواخر الشهر الماضي، التقى خلالها عدداً من صنّاع القرار الأميركي، من دون أن يلتقي الرئيس دونالد ترامب.

فما هو سرّ غضب الملك في هذا التوقيت بالذات، رغم أنّ مملكته وصيّة على المقدسات منذ أيام أجداده، ولماذا لم تفجّره انتهاكات كثيرة ارتكبت في حقّ للمدينة المحتلة ومقدساتها وأبنائها؟ وما هو مصدر هذه الضغوط؟

صراع خفي بين الرياض وعمان في ملف القدس، وسط ما يُحكى عن أنّ الإعلان عن «صفقة القرن» بات وشيكاً جداً. فماذا تريد السعودية من عبدالله الثاني؟ هل تسحب الرياض من عمّان الوصاية على الأماكن المقدسة؟

في ظلّ ما يُسرّب عن تباين في الرؤى والتصوّرات حيال ملف القدس بين الأردن والسعودية، يشير عضو مجلس النواب الأردني طارق خوري إلى «أنّ هناك ضغوطاً واضحة على الملك، خصوصاً من السعودية. وقد كان الملك حازماً بأنّ القدس خط أحمر. هي المرة الأولى التي نسمع فيها الملك يتحدث عن هذا الموضوع بهذه اللهجة الصارمة، وهذا ما يدلّ على وجود ضغط خارجي كبير عليه بأدوات اقتصادية بطبيعة الحال».

ويضيف لـ «البناء»: «لقد استعمل الملك تعبير «على حدودنا العدو» وهذا كلام قلّ ما نسمعه منه في ظلّ وجود اتفاقية سلام مع الأردن. وبطبيعة الحال فإنّه أراد أن يقول إنّ كلّ ما يجري في القدس من انتهاكات يستهدفه ويستفزّه. وقد شاهدنا ما حدث وتأجيل زيارته إلى رومانيا بعد أن صدرت مواقف تتعلق بنقل السفارة الرومانية إلى القدس المحتلة».

لم يكن وصف العاهل الأردني مملكته بـ»الهاشمية» مراراً في تصريحاته الأخيرة عفوياً، ويرى خوري، في هذا السياق، أنّ العاهل الأردني تعمّد ذلك وأراد من خلاله توجيه رسالة إلى السعودية تحديداً، مفادها «لا أحد يفكر في أن يسحب منّا الوصاية، نحن الهاشميين، وهي وصاية ذات أبعاد سياسية ودينية وتاريخية».

ويشير خوري إلى أنّ الوصاية «مُثبتة من خلال بند في اتفاقية وادي عربة»، فيما يقول عضو مجلس النواب الأردني صالح العرموطي لـ«البناء» إنّ الملك «يريد التأكيد على أحقية الأردن بالوصاية على مدينة القدس ومقدّساتها وعلى موقف المملكة من القدس وقضية فلسطين بشكل عام».

ويرى الكاتب والمحلّل السياسي الأردني أسعد العزوني، في السياق نفسه، أنّ «التهديد الأخطر الذي يتعرّض له الحكم الهاشمي في الأردن يأتي من السعودية التي تنظر إلى الهاشميين كعدو تاريخي يجب التخلص منه»، مذكراً بأنّ السعودية «كانت ولا تزال تنسج المؤامرات ضدّ النظام الهاشمي، والملك فيصل بن سعود هو الذي ورّط العاهل الأردني الراحل الحسين بن طلال في أحداث أيلول ضدّ الفلسطينيين عام 1970، وهدّده أنه في حال لم يبادر بإخراجهم من الأردن، فإنّه الملك فيصل ومعه أبناء سعود سيفجّرون ثورة أردنية مضادة لكلّ من الملك حسين والفلسطينيين، لأنّ السعودية لا تحتمل وجود ثورتين الأولى في الشمال اليمن والثانية في الجنوب الأردن وكلاهما ضدّ السعودية».

ويضيف لـ»البناء»: «إنّ الملك من خلال تشديده على وصف المملكة بالهاشمية أراد القول إنه يعي جيداً الصراع التاريخي بين أبناء سعود والهاشميين، وها هو التحالف السعودي ـ الإسرائيلي يستهدف الأردن أيضاً بعد فلسطين».

وصاية لا تدفع ولا تمنع

بدأت السيادة الأردنية على المسجد الأقصى عام 1924، وانتقلت في سنوات لاحقة إلى قيادات محلية فلسطينية، لكن بعد حرب عام 1948، وعندما أصبحت الضفة الغربية، بما فيها، «القدس الشرقية» تابعة للحكم الأردني عادت الوصاية أردنية.

وبعد عام واحد 1949 أعادت الإدارة المدنية الأردنية نظام الحكم المدني إلى الضفة الغربية بموجب قانون الإدارة العامة على فلسطين، وفي عام 1950، تمّ توحيد الضفتين الغربية والشرقية لنهر الأردن رسمياً، كما تمّ التأكيد على استمرار سريان القوانين السارية المفعول في الضفة الغربية في نهاية فترة الانتداب البريطاني إلى حين استبدالها بقوانين أردنية.

وظلّ ذلك سارياً حتى 1967، أيّ عندما احتلت «إسرائيل» القدس الشرقية . غير أنّ هذا الاحتلال لم يمنح «إسرائيل» أي حقوق ملكية، لأنّ القاعدة المؤسّسة في القانون الدولي تنصّ على أنّ الاحتلال لا يستطيع منح حقوق للملكية، ولمبدأ عدم جواز الاستيلاء على الأراضي بالقوة ووجوب انسحاب «إسرائيل» من الأراضي التي احتلتها في حرب حزيران 1967 كما ورد في قرار مجلس الأمن رقم 242، وبناء عليه، وبعد مرور مدة قصيرة من سيطرة «إسرائيل» على الحرم القدسي، تمّ نقل الوصاية إلى الأردن مجدّداً.

وتشرف وزارة الأوقاف الأردنية على غالبية موظفي المسجد ومرافقه، وذلك بالتعاون مع وزارة الأوقاف الفلسطينية.

أما بالنسبة إلى المقدسات المسيحية فقد منح «الهاشميون» خلال فترة حكمهم للضفة الغربية من 1967 1952 الحرية المطلقة للطوائف المسيحية المختلفة لصيانة وإعمار كنائسها وأديرتها. وتمّ إعمار كنيسة القيامة خلال العهد «الهاشمي» وقبل الاحتلال «الإسرائيلي» عام 1967.

وبما أنّ تاريخ الأردن ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالوصاية الهاشمية على المقدسات، وإن كان البعض يرى أنها «تحوّلت إلى وصاية شرفية لا تدفع ولا تمنع»، فهل يعني انتهاؤها نهاية المملكة؟ يجيب خوري: «لم يعد خافياً على أحد الدور الكبير للسعودية في تعبيد الطريق أمام ما بات يُعرف بـ»صفقة القرن» مقابل ضمان انتقال سلس للسلطة داخلها، ولهذا السبب تُرِك الأردن وحيداً في مواجهة العدوان الإسرائيلي على المقدسات، ومن هذا المنطلق، فإن أصبح للسعودية دور ما يتعلق بالوصاية فذلك يعني ضياع القدس ومقدساتها «. فيما يشير العرموطي إلى «أنّ الوصاية الهاشمية ترتكز على جوانب دينية وقانونية مثبتة من ناحية دينية وعقائدية وسياسية للهاشميين».

ويرى العزّوني أنه «في حال انصاع الملك عبد الله للضغوط السعودية وقَبِل التنازل عن الوصاية فإنه لن يعود ملكاً ولن تبقى هناك مبرّرات لحكمه، وعموماً فإنّ الكونفدرالية الأردنية ـ الفلسطينية، ومن بعدها كونفدرالية الأراضي المقدسة التي ستضمّ إسرائيل لاحقاً ستقلّص من صلاحيات الملك».

ويذكّر العزّوني بمحاولات السعودية مؤخراً الاتصال بقامات مقدسية إسلامية ومسيحية لتوجيه الدعوة لهم لزيارة الرياض ورشوتهم من أجل إصدار بيان من الرياض يدعو إلى سحب الوصاية الهاشمية من الملك عبد الله الثاني وتسليمها إلى آل سعود.

هل يذهب الأردن بعيداً في رفضه للإملاءات؟

يعتمد الأردن بشكل كبير على المساعدات السنوية الأميركية التي تبلغ حوالي 1.5 مليار دولار لمنع حدوث انهيار مالي في ظلّ ارتفاع المديونية إلى 95 في المئة من الناتج المحلي، فهل يستطيع هذا البلد الصغير، بإمكانياته الاقتصادية المحدودة جداً، مواجهة واشنطن وتل أبيب وبعض دول الخليج الساعية إلى إرضاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب لتمرير صفقة القرن؟ «إذا اختار الأردن المواجهة سيواجه بشعبه»، يقول خوري، مضيفاً: «الملك عبدالله يدرك أنّ شعبه معه وملتفّ حوله بشكل قويّ وقد استمدّ قوة خطابه وحدّة مواقفه من هذا التأييد».

ويعتبر العرموطي «أنّ لدى الأردن خيارات كثيرة في المواجهة منها إلغاء اتفاقية وادي عربة وكذلك اتفاقيتي الغاز و»ناقل البحرين» مع العدو الصهيوني وطرد السفير الإسرائيلي وقطع العلاقات، بالإضافة إلى التوجّه إلى مجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية باعتبار أنّ ما يقوم به العدو من انتهاكات في القدس المحتلة يعتبر إخلالاً بالسلم والأمن الدوليين».

ويؤكد العزّوني أن «لا مجال أمام القيادة الهاشمية إلا الصمود والمناورة، وها هو الملك عبد الله يحاول حشد مواقف عربية وإقليمية مؤيدة لموقفه لأنه يعلم علم اليقين أنّ الأردن لا يستطيع الوقوف وحده في وجه تحالف صفقة القرن، خاصة بعد أن أيقن أنّ هؤلاء لم يكونوا يوماً أصدقاء أو حلفاء للأردن بل أعداء يعملون على التخلص من النظام الهاشمي وتعميق تحالفهم مع إسرائيل، بعد أن وظّفوا الأردن في هذا المجال وكان حلقة الوصل بينهم وبين دولة العدو».

وحيث أنّ الأردن لن يستطيع خوض هذه المواجهة وحيداً، فهل سيلوذ بمحيطه الجغرافي وبتحالفات إقليمية مع دول تحمل وجهة النظر ذاتها تجاه المقدّسات؟ هل سنشهد تقارباً أردنياً ـ سوريّاً على المستوى الرسمي؟

يشير خوري إلى أنّ العلاقات الأردنية ـ السورية «تتطوّر، وإن بشكل بطيء، وليس خافياً أنّ الأردن لا يزال يراعي من يعتبرهم حلفاءه، إلا أننا نتمنّى أن يعود الأردن إلى محيطه القومي والجغرافي، خاصة أنّ سورية التي لم يتغيّر موقفها يوماً تجاه المسألة الفلسطينية والقدس».

من جهته، يرى العرموطي «أنّ تركيا تقوم بدور كبير في المنطقة وتشكل ثقلاً سياسياً ودولياً وهي تناصر القضية الفلسطينية وكذلك دولة قطر، وبالتالي فإنّ من الضروري بناء استراتيجية شاملة للمواجهة».

أما العزوني فيعتبر أن «لا مفرّ للأردن من التشبيك مع حلفاء أقوياء بالتوجه إلى الحلف المضاد وهو إيران وتركيا وقطر والكويت لحماية نفسه ومواجهة مؤامرات صفقة القرن».

ويضيف: «إنّ تمتين العلاقات مع سورية والعراق يصبّ في مصلحة الأردن أولاً، لذلك يتوجب على صانع القرار في الأردن كسر «التابوات» بمجملها لتقوية موقعه في هذه المواجهة».

وإذا كان غضب العاهل الأردني يحمل في طياته مواقف صلبة وحادّة وتطوّراً لافتاً من حيث توجيه رسائل إلى الداخل الأردني والأهمّ رسائل إلى خصوم اليوم حلفاء الأمس، إلا أنه يطرح تساؤلات عديدة وهامة. فما هو مصير اتفاقيات «وادي عربة» و»ناقل البحرين» واتفاقية الغاز الموقعة مع العدو «الإسرائيلي» وسط موجة المطالبات الشعبية والبرلمانية بإلغائها وطرد السفير «الإسرائيلي» وقطع العلاقات؟ لماذا ثار الملك الهاشمي عندما تعلّق الأمر بأحد أهمّ ركائز حكمه ألا وهو دوره السياسي والتاريخي في القدس، ولم نشهد هذا الغضب تجاه انتهاكات العدو «الإسرائيلي» التي لا تُعدّ ولا تُحصى ولا تنتهي في القدس طوال سنوات حكمه، بل كانت أقصى ردود فعله تختصر بعبارات الشجب والإدانة والاستنكار؟ ما هي خلفيات هذا «الغضب الجلَل» وهل تتعلق بالتضييق الاقتصادي على الأردن؟

إن كان كلّ ما نشاهده ونسمعه هو صحوة أردنية تجاه القدس والمقدّسات، ألا يُخشى أن تكون صحوة متأخرة؟ أم يصحّ هنا المثل القائل «أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي أبداً؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى