الهوّة بين الإيقاع العَروضيّ والإيقاع الشّعريّ

لارا ملّاك

عرّف ابن منظور في لسان العرب الإيقاع بأنّه إيقاع اللّحن والغناء، وهو أن يوقع الألحان ويبيّنها. ومن يوقع الألحان هو من ينتجها ويرسلها. والإيقاع اصطلاحًا، مجموعةٌ من الأصوات المتجانسة المتلائمة الّتي تشكّل لحنًا موسيقيًّا. ومن المعروف فيزيائيًّا وطبيعيًّا أنّ الصّوت هو نتاج احتكاك الأجسام، وقد تكون هذه الأجسام أشياء موجودةً في الطّبيعة أو آلاتٍ فيكون الصّوت عندها غير بشريّ، أو تكون أعضاء الآلة النّاطقة عند الإنسان، فيكون الصّوت نطقًا بشريًّا. والإيقاع المتجانس أو اللّحن يصحّ في الحالتين، في الأولى يكون الكلام على الموسيقى، وفي الثّانية على الكلام الموزون الملحّن المغاير للكلام العاديّ الّذي نكتفي منه بغاية التّواصل. وما يعنيني هنا في هذه المقالة، النّوع الثّاني من الإيقاع، وهو الإيقاع الصّادر عن جهاز النّطق عند الإنسان، فهو حين قال الشّعر قال كلامًا من أصواتٍ تألّفت منها الكلمات وضمّنها من عناصر الموسيقى ما أنتجته فطرته. وبما أنّ الفطرة والسّجيّة تختلفان أو يختلف نتاجهما بين شعبٍ وآخر، جاء الإيقاع الشّعريّ مغايرًا مختلفًا بين الحضارات، فقد قام الشّعر الفرنسيّ مثلًا على انسجام التّقطيع الصّوتيّ الكلاميّ، آخذًا بالحسبان الصّوامت consonnes والصّوائت voyelles ، وكيفيّة تركيب البيت الشّعريّ الواحد والقصيدة من مقاطع صوتيّةٍ متجانسةٍ تتألّف من هذه الصّوامت والصّوائت. أمّا الشّعر العربيّ الّذي قام على نظام الشّطرين، فقد استنبط قوانينه الخليل، وقد بنى هذه القوانين على السّواكن والمتحرّكات، وهذا يعني حكمًا أنّ هذا الإيقاع لا يلحظ الصّوائت في تقطيعه، إنّما يلحظ الصّوامت، ويحدّد في قوانينه متى يكون الصّامت متحرّكًا ومتى يكون ساكنًا. وفي هذا، في اعتقادي، خللٌ إيقاعيٌّ أفضى إلى هوّةٍ بين القانون العروضيّ وبين الإيقاع الصّوتيّ الّذي تؤدّيه الأبيات الشّعريّة. ولإيضاح ذلك، سأمثّل ببيتٍ شعريٍّ يوضح مقصدي، وهو بيتٌ لأحمد شوقي:

«فَنِلْتُ ما نلتُ من سئلٍ ومن أمل

ورُحْتُ لم أحصِ أفراحي وأعيادي»

إذا أخذنا الكلمة الأولى، وأشرنا إلى أجزائها بالكتابة الصّوتيّة نجدها «ف ــَـ ن ــِـ ل ت ــُــ» أي أنّها مكوّنةٌ من سبعة أصواتٍ، الأوّل صامتٌ هو الفاء، والثّاني هو الفتحة، والثّالث هو النّون يليه صوت الكسرة وتليه اللّام، ومن بعدها تاءٌ يليها صوت الضّمةّ. أمّا التّقطيع العروضيّ لهذه الكلمة، فهو //0/ ، وهو تقطيعٌ يشير إلى أربعة أصواتٍ، كما أنّه لا يلحظ الحركات القصيرة، إنّما يشير إلى صوتين برمزٍ واحد. فالفاء والفتحة، أي الصّامت والصّائت يشير إليهما برمز متحرّك / . وهذا يعني وجود هوّةٍ بين القانون العروضيّ وبين الصّوت الّذي نسمعه في البيت، أي أنّنا نطبّق على اللّغة قانونًا بعيدًا من طبيعتها. وما يزيد الهوّة أيضًا بين الإيقاع العروضيّ والإيقاع الشّعريّ، الخلط الّذي وقع العرب ضحيّته بين أنواع الأصوات، فهم لم يستطيعوا التّمييز بين الصّامت والصّائت ونصف الصّائت. ولتوضيح ذلك، أختار من هذا البيت كلمتين هما «ما» و»لَمْ»، في الكتابة الصّوتيّة الكلمة الأولى هي م ـــَـ ــَــ، أمّا الثّانية فهي ل ــَـ م، في حين أنّهما في الكتابة العروضيّة، متطابقتان: /0 . فنلاحظ إذًا أنّ الإيقاع العروضيّ يشير إلى الحركة الطّويلة الصّائت الألف، بالعلامة نفسها الّتي أشار بها إلى الميم الصّوت الصّامت، وإن اخترنا كلمةً ثالثة هي «لَوْ»، نراهم يكتبونها عروضيًّا أيضًا بهذا الشّكل /0 ، علمًا بأنّ نصف الصّائت يدخل في تركيبها الصّوتيّ، وأعني هنا الواو غير الممدودة. إذًا، إنّ تنوّع الصّوت وفئته، منحًى لا يُعنى به إيقاع الخليل، ممّا يدلّ على أنّ القوانين العروضيّة لم تعبّر خير تعبيرٍ عن الإيقاع الحقيقيّ. وقد أشار الدّكتور محمّد توفيق أبو علي في إحدى دراساته إلى أنّ الثّغرة العروضيّة تتمثّل في عدم التّمييز بين الصّامت والصّامت في العروض، ولكن في الواقع إنّ هذه الثّغرة هي أعمق من ذلك بكثيرٍ، حيث لا يدخل القانون العروضيّ في عمق التّركيب الصّوتيّ للكلام العربيّ، ولا يميّز بين أصنافه.

وإذا أردتُ أن أحدّد أسباب هذه الهوّة موضوع الكلام في هذه المقالة، فأقول إنّها تعود أوّلًا إلى اللّغة المكتوبة الّتي لم تلحظ الصّوائت القصيرة برموزٍ مستقلّةٍ ممّا أَوْحى بأنّها ليست أصواتًا مستقلّة وما هي إلّا تابعة للصّوامت، كما أنّ اللّغة المكتوبة لم تميّز بين الصّائت ونصف الصّائت بل عبّرت عنهما برمزٍ واحد. فالياء الممدودة غير الممدودة رمزهما «ي» والواو الممدودة وغير الممدودة رمزهما «ي»، كما أنّها ميّزت بين الصّائت الطّويل والقصير، فالقصير نكتفي بالإشارة إليه بحركةٍ فوق الحرف، وهي حركةٌ نستغني عنها كثيرًا في كتابتنا العربيّة القديمة والحديثة، بينما الصّائت الطّويل له رمزٌ مستقلّ كالصّامت، ممّا كرّس التّمييز بين الصّوائت على الرّغم من أنّها من فئةٍ واحدة. كلّ ذلك انعكس خللًا في دراسات علماء اللّغة العرب القدامى الّذين لم يستطيعوا التّمييز بدقّةٍ بين أصناف الأصوات اللّغويّة وفئاتها، ومنهم الخليل الّذي استنبط قوانين العروض ودوّنها على هذه الأسس، ممّا أدّى إلى خللٍ صوتيٍّ واضحٍ في القانون العروضيّ. وقد عبّر قلّة في القديم عن خللٍ في القانون الصّوتيّ عند العرب، ومنهم ابن سينا الفيلسوف والطّبيب واللّغويّ الّذي اعترف بأنّه يقف حائرًا أمام الصّوائت وأنصاف الصّوائت، فتنبّه لوجود اختلافٍ لكنّ معرفته اللّغويّة لم تسمح له بإدراك هذا الفرق بدقّة، بينما لم يتوصّل اللّغويّون إلى هذا التّمييز السّطحيّ حتّى، وأوّلهم الخليل وسيبويه.

ولا يُعَدّ ما ذكرناه مأخذًا على القدامى، كما لا يُنقص هذا الأمر من قيمة الدّراسات الّتي وضعوها في العلوم اللّغويّة وفي الشّعر والنّصوص الأدبيّة، ففي زمنهم لم تتوفّر لهم التقنيّات والمختبرات اللّازمة لإدراك الفروق الصّوتيّة الدّقيقة. لكن ما يثير الدّهشة، أنّنا اليوم وبعد ما توصّلنا إليه في علم الأصوات من أحكامٍ وتصويباتٍ بفعل التّطوّر العلميّ، لم نُدخِل نتائج العلوم الحديثة في أحكامنا اللّغويّة، وفي إيقاعنا الشّعريّ. فنجد اليوم مَن يكتب شعرًا على نظام التّفعيلة يعود إلى تفعيلة الخليل كما هي من دون إحداث أيّ تغييرٍ فيها. وكأنّنا نغضّ طرفنا عن التّغيير وإن أثبت المنطق والعلم وجوبه، أو كأنّنا نأخذ قوانين العروض كما هي من دون أن نحاول إعادة النّظر في ما يصلنا من الأقدمين. فنقلّد علمًا بأنّ تصويب الخلل في أيّ فكرةٍ لا يضرب الفكرة في ذاتها، بل يعدّل فيها نحو شكلٍ أكثر حداثةً وأكثر دقّة. والسّؤال المشروع هنا: لمَ لم تنعكس الحداثة في علم الأصوات حداثةً في الشّعر القائم على نظام الشّطرين، ليس لإلغاء التّفعيلة جملةً وتفصيلًا، بل على الأقلّ لتعديل نظامها الصّوتيّ؟ لتكون الإجابة عن السّؤال هذا بتساؤلٍ: هل يكون ذلك من منطلق تقديس القديم وعدم تقبّل تغييره، أم من منطلق غياب الشّاعر عن تطوّرات اللّغة، وعدم إدراكه التّغيير الحاصل أصلًا في العلوم الّتي تُعنى بها؟

وقد قال ابن خلدون في مقدّمته إنّ النّظام الإيقاعيّ في الشّعر العربيّ يقوم على المتحرّك والسّاكن، وهذا النّظام، هو نقطةٌ في بحر الموسيقى، ولكنّهم، على حدّ تعبيره، لم يتوصّلوا إلى موسيقى مغايرةٍ بسبب بداوتهم. أعتقد اليوم أنّ العقل بات منفتحًا على شتّى أنواع العلوم، وعلى شتّى أشكال التّعبير، وبات قادرًا على الغوص في بحر الإيقاع، من دون قيودٍ، تلافيًا لأيّ هوّةٍ بين القانون الشّعريّ وبين الشّعر. ولا بدّ حتمًا، أن يكون الشّعر هو الهدف الأسمى لدى الشّاعر، وليس القانون.

عضو في ملتقى الأدب الوجيز.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى