لمَ العودة للتهويل بالحرب… وعلى لسان قادة المقاومة؟

العميد د. أمين محمد حطيط

قبل شهرين من الآن خرج مسؤول عسكري «إسرائيلي» رفيع معني مباشرة بالتحقق من أوضاع الجيش وجهوزيته، خرج بتقرير يؤكد فيه أنّ الجيش «الإسرائيلي» غير جاهز للقتال، وأنّ الجبهة الداخلية غير جاهزة لتلقي الضربات في أيّ حرب قادمة، وانّ سلاح المظليين في وضع من الانحدار المعنوي لا يمكنه من القيام بأيّ مهمة مهما كان حجمها خلف خطوط العدو. وقد كان هذا التقرير بمثابة النعي لطموحات بعض السياسيين «الإسرائيليين» أصحاب الرؤوس الحامية الذين يرون أنّ الحرب هي الحلّ لكلّ مآزق «إسرائيل». ومع هذا تلقى الشارع «الإسرائيلي» الخبر وصمت بعد أن تأكد بأنّ الزمن تغيّر وانّ أيام القول بأنّ «إسرائيل تملك الجيش الذي لا يُقهر» باتت من الماضي السحيق الذي لا رجعة إليه أقله في المدى المنظور.

ولكن فجأة… وبعد أقلّ من شهرين على صدور التقرير الآنف الذكر خرج كوخافي رئيس الأركان «الإسرائيلي» الجديد، والذي لم يمض على توليه المسؤولية أربعة أشهر، خرج ليفاخر بقدرات الجيش الإسرائيلي «الفائقة الفاعلية» والهائلة في مفاعيلها التدميرية، توصيف يرمي منه المسؤول العسكري «الإسرائيلي» الى رفع المعنويات في صفوف جنده والحصول على ثقة دولته به وبقدراته من جهة كما يهدف إلى إلقاء الرعب والهلع في صفوف الأعداء الذين إذا صدّقوه سيجدون أنفسهم في دوائر الخطر الذي يصعب ردّه.

وحتى تتكامل فصول الحرب النفسية ضدّ أعداء «إسرائيل»، تنطحت جريدة عربية في الكويت جريدة الراي ولفّقت حديثاً نسبته الى السيد حسن نصرالله زعمت أنه قاله في اجتماع داخلي مغلق، وادّعت بأنّ السيد يرجح الحرب قريباً في الصيف وينتظر ان تكون تدميرية بشدّة، لا بل انّ دمارها سيكون فظيعاً، وستؤدّي الى اغتيال معظم قادة الصف الأول من المقاومة في لبنان.

من البديهي ان لا نصدّق ما ورد في كلام الصحيفة خاصة انّ قيادة المقاومة التي عوّدتنا على الصدق في الموقف والممارسة دائماً نفته جملة وفصيلاً، كما أنه منتفٍ أصلاً قبل نفي المقاومة له، منتفٍ ذاتياً وموضوعياً. فمن الناحية الذاتية المتصلة بالسيد حسن نصرالله المشهود له في قيادة وإدارة الحرب النفسية فإنّ القول لا ينسجم مطلقاً مع سلوك السيد وممارسته، إذ انّ السيد حتى ولو كان يرى ما ذكر أو كان يعتقد به فإنه من المستحيل ان يتلفظ به ويتركه يتسرّب إلى الإعلام وهو يعلم مقدار ما يؤثر على معنويات المقاتلين وجمهور المقاومة والوضع اللبناني المترنّح اقتصادياً، اما موضوعياً فإنّ الموضوع المنشور مناقض كلياً لمواقف المقاومة وتحضيراتها للحرب وهي التي انتقلت من استراتيجية دفاعية مقيّدة الى استراتيجية مفتوحة مركبة من دفاع وهجوم في معرض الدفاع، وباتت تمتلك من القدرات ما يمكنها من خوض حرب مفتوحة لا تستطيع «إسرائيل» مجاراتها فيها. لكلّ ذلك نقول انّ ما نشر ونسب للسيد نصر الله هو نوع من الاختلاق الذي يجعل النشر وجهاً من وجوه الحرب النفسية لضرب معنويات المقاومة… إذن لماذا هذا الفعل الآن؟

من المفيد ان نذكر بأنّ الأطراف العاملة لتصفية القضية الفلسطينية وبقيادة أميركا، تتحضر لإعلان صفقة القرن في حزيران المقبل وهي تعلم في قرارة نفسها انّ هذا المشروع التصفوي لن يمرّ إلا في حالين… إما قبول الجميع به خاصة من يملكون القوة الميدانية، او عبر توجيه ضربة ساحقة لكلّ من يعترض واقتياده الى خانة الاستسلام. ثم انهم يعلمون بأنّ الحرب الفعلية الميدانية هي امر غير مضمون النتائج مع القدرات الهامة التي تملكها المقاومة وتستعدّ لزجّها في الميدان.

كما انّ تلك الأطراف تعاني الآن من الخيبات التي انتهت اليها الحرب الإرهابية التي استهدفت سورية ومحور المقاومة طيلة السنوات الثماني السابقة، وأنها أيضاً تجد المرارة في عدم تحقيق الحرب الاقتصادية على المقاومة ومحورها بكلّ مكوناته عدم تحقيق أهدافها مع إبداء المستهدفين بها إرادة فولاذية بالتحمّل والصبر والتكيّف مع المصاعب.

لكلّ ذلك ومن أجل توفير فرص النجاح لصفقة القرن يرى أصحابها انّ الحرب النفسية التي قد تقود المستهدفين بها الى الانهيار الإدراكي والانحدار المعنوي وتثوير الشعب عل قيادته، انّ هذه الحرب قد تكون بديلاً للحرب الإرهابية وللحرب الاقتصادية في تحقيق الأهداف وصنع البيئة التي تجعل صفقة القرن قابلة للحياة والنجاح.

ولكن نسي هؤلاء انّ 500 مليون دولار أنفقت في السابق على مثل هذه الحرب ضدّ حزب الله وحده لم تعط النتائج المرجوة لا بل لم تمسّ حزب الله في أيّ أثر سلبي فاعل، وانّ المقاومة العقائدية التي ينظمها ويقودها حزب الله، تمتلك من المناعة ما يجعل الاختلاق عاجزاً عن اختراق صفوفها، كما أنّ جمهور المقاومة لديه من الثقة بمن وعده بالنصر دائماً، وبمن وعده بأنّ الحرب المقبلة ستغيّر وجه المنطقة إيجابياً لصالح محور المقاومة، لديه من الثقة به وبقيادته بمستوى لا تصل اليه ولا تفعل فيه التلفيقات، وسينفقون أموالهم على تلفيقاتهم ثم لا يجنون إلا الحسرات.

نقول هذا مع التأكيد بأنّ المقاومة لم تخرج من توقعاتها يوماً احتمال الحرب، لا بل انها انتظرتها دائماً لأنها تعرف انّ العدو المغتصب للحقوق يعتبر الحرب وسيلته للمحافظة على ما اغتصب، لكنها تعرف أيضاً انّ العدو لا يُقدم على حرب ينتحر بها ولا يشنّ حرباً انْ لم يضمن الانتصار ويضمن القدرة على احتواء ردّة الفعل ويطمئن الى قدرته على إنهائها في توقيت هو يحدّده، وكلها أمور غير متحققة الآن، فـ «إسرائيل» قادرة على إطلاق الطلقة الأولى لكنها عاجزة عن التحكم بالميدان وعن تحديد نطاق الحرب ومدّتها، لذلك لا نعتقد أنها ستقدم في القريب على حرب لا تضمن نتائجها.

إذن فالحرب النارية حتى اللحظة تبقى في دائرة الاحتمال المستبعد، مع بقاء حيّز للحظة جنون وسوء تقدير، لكن مع أشخاص مثل ترامب ونتنياهو يشتدّ استبعاد الاحتكام الى النار الميدانية وتكون الحروب غير النارية مثل الحروب الاقتصادية والسياسية والنفسية هي الأكثر استعمالاً كما يحصل الآن، حروب يريد منها أصحابها تمرير صفقة القرن في الأشهر المقبلة… لكنهم كما نتصوّر سيفشلون.

أستاذ جامعي ـ باحث استراتيجي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى