العتبات النصيّة في العمل الأدبيّ

د. درّيّة كمال فرحات

ورد في لسان العرب ما يُشير إلى أنّ العنوان مرتبط بالمعنى والإظهار: «عنت القربة تعنو إذا سال ماؤها»، وقال الأصمعي: عَنوْتُ الشيء: أبديته، وأعني الغيث النبات كذلك، ومنه المعنى وهو القصد والمراد، ومنه اشتق في ما ذكروا عنوان الكتاب. قال إبن سيده: العُنوان والعِنوان سمة الكتاب. والعنوان تعريف للمكتوب، به يُعرف الكتاب ويتميّز عن غيره، وهو تجميع واختزال لنُوى كتابيّة متناثرة وموسعة في فضاء الكتاب. وقد قال السيوطي: «عنوان الكتاب يجمع مقاصده بعبارة موجزة في أوله»، إنه مادة لغويّة ترتبط بموضوعها الكليّ الذي تُعنونه، وتعمل على تلخيص المقاصد الكبرى والرئيسة فيه، تسهيلًا لعملية الاطلاع والبحث، فالمرسل «يتأوّل عمله ويجدد مقاصده، وعلى ضوء تلك المقاصد يضع عنوانًا له، مع الحرص على الاقتصاد والتركيز اللغويّ ما أمكن». وكانت النظرة إلى العنوان في الكتابات العربيّة بأنّه المحدّد لهوية النّصّ، وهو الذي يختزل ما خفي من مقصد الكاتب.

ودراسة العنوان من الآليات التي اهتمّت بها الدّراسات السّيميائية فكانت دراسة مجموع «النّصوص التي تحيط بمتن الكتاب من جميع جوانبه: حواشٍ وهوامش وعناوين رئيسة وأخرى فرعية وفهارس ومقدمات وخاتمة وغيرها من بيانات النشر المعروفة التي تشكل في الوقت ذاته نظامًا إشاريًّا ومعرفيًّا لا يقل أهمية عن المتن الذي يحيط به، بل إنّه يؤدّي دورًا مهمًّا في نوعية القراءة وتوجيهها. والعنوان من أهم النّصوص الموازية للنّص إذ إنه أوّل ما يصافح بصر المتلقي وسمعه. وهو المفتاح الذي ستُفتح به مغاليق النّص. العنوان مفتاح أساسي يتسلّح به المحلّل للولوج إلى أغوار النّص العميقة قصد استنطاقها وتأويلها.

وإذا تبعنا ما يقوله جيرار جينت بأنّ العنوان مجموعة من العلامات اللسانيّة يمكن أن توضع على رأس النّص لتحدّده، وتدلّ على محتواه، ويساعد ذلك على إغراء الجمهور المقصود بقراءته، فإنّنا نحتاج إلى دراسة علاماته السّيميائيّة من نواحٍ عدّة، ودراسة بنيته التي تعتمد على بنية العنوان اللغويّة. فالعنوان علامة، إشارة تواصليّة له وجود مادي يتمثل في صياغته ونحته من مفردات لغة الكاتب أو لغة الكتاب. أمّا البنية الثانيّة فهي البنية الصّرفيّة والنّحويّة للعنوان، أي ما يختصّ صرفيًّا بدراسة بنية الكلمات مراعى فيها التّشكيل الدّاخلي من حركات ضمة، فتحة، كسرة أو سكون، ومـن حيث صورها وهيئاتها كالإعلال والإدغام، أمّا النحو فهو يبحث عن أحوال المركبات الموضوعة وضعاً نوعياً، لنوع من المعاني التّركيبيّة النّسبيّة، من حيث دلالتها عليها. والبنية الثالثة هي البنيّة الدّلاليّة أي الشّكل العام لتنظيم مختلف العوالم الدّلاليّة – الحقيقية أو الممكنة – ذات الطّبيعة الاجتماعيّة والفرديّة ثقافات أو أشخاص .

ومن هنا يمكن القول إنّ العنوان هو من أهم العتبات النّصيّة التي توضّح دلالات النّصّ، واكتشاف معانيه الظاهرة والخفيّة، من خلال التفسير والتّفكيك والتّركيب، وعليه يُشكّل العنوان المفتاح القادر على فهم النّص، وسبر أغواره. وقد حدّد جيرار جينيت وظائف عديدة للعنوان منها الوظيفة التعيينيّة/التسمويّة، والوظيفة الإغرائيّة، والوظيفة الوصفيّة والوظيفة الدّلاليّة الضمنيّة. وقد تتحقّق هذه الوظائف كلّها في عنوان واحد، بحيث يصف المحتوى، ويوحي بأشياء أخرى، ويغري المتلقين بالقراءة، وأكثر من ذلك فهو اسم محدّد للكتاب يميّزه عن غيره.

ومتابعة العلامات السّيمائيّة تقودنا إلى دراسة العناوين الأخرى في النّتاج الأدبيّ، فلا يقصد بالعنوان فقط العنوان المركزي للكتاب، إذ هناك ما يُسمّى بالعنوان الفرعي. والعنوان المركزي هو واجهة الكتاب أو العنوان الأساسي، أمّا العنوان الفرعيّ فهو إشارة أو إشارات لغويّة تحدّد بدقة موضوع الكتاب، فداخل الكل الشّاسع الذي يميل إليه العنوان المركزيّ، نجد تخصيصًا لجانب من جوانب الموضوع، أو مسألة خاصة أو نموذج بعينه، فالعنوان الخارجي يعطي دلالة على الكتاب ككل، أمّا العناوين الدّاخليّة فهي تعطي دلالات على المحتوى الدّاخلي، لكن ما يربطها بالعنوان الأساسي هو الخط الساري الذي يرتبط بمشاعر الأديب أو فكرته العامة التي يريد إيصالها، وهكذا يمكن للشّاعر أو القاص أن ينوّع في نصوصه الإبداعيّة في نتاجه الأدبيّ، يقول ريناتير: «يمكن للعناوين أن تشتغل دلائل مزدوجة، فهي تقدّم القصيدة التي تتوّجها، وتحيل في الوقت نفسه إلى نص غيرها.. وبإحالة العنوان المزدوج إلى نصّ آخر فإنه يشـير إلى الموضوع الذي تفــسّر فيه دلالة القصيدة التي يقدمها القارئ عبر المقارنة»، والأمر عينه مع القاص في مجموعته القصصية، أو الرّاوي في روايته إذ يمكن تقسيمها إلى فصول. ويترافق مع هذين العنوانين ما يشير إلى نوع النصّ وجنسه الذي يميّزه عن غيره من النّتاجات، فيحدّده من حيث هو قصة أو رواية أو مسرحية أو شعر.

وانطلاقًا من هذا الدور الذي تشغله عناوين النّصوص، وخصوصًا في الدّراسات الحديثة، فقد نالت اهتمام النّقاد، وحرص الكتّاب والأدباء في حسن اختيار العنوان الذي يكون قادرًا على إثارة تساؤلات القارئ، ولا يلقى الجواب عنها إلّا في نهاية النتاج الإبداعيّ. ومن هنا بات العنوان في النصّ الحديث حاجة أساسيّة وليس زينة أو تعبئة فراغات، وهذا ما يدفع الأدباء إلى الاهتمام باختيار عناوين نتاجاتهم، فيحرصون على اختياره بما يتناسب مع المضمون وما يجعله جذّابًا يشدّ المتلقي إلى قراءته.

وكما قيل في موروثنا الثقافيّ «المكتوب يُقرأ من عنوانه»، لهذا يمدّنا العنوان بما نريده قبل الولوج إلى قراءة النّصّ، ويدفعنا إلى تصوّر ما سيكون عليه المتن. وهو الدّليل الذي يرشدنا إلى مسالك النصّ، فيكون الرّكيزة التي تثبت تفكير المتلقي مع الحفاظ على العالم المتخيّل في ذهن القارئ، وسيبقى في الذّاكرة محفورًا يُشير إلى النصّ الإبداعيّ.

عضو ملتقى الأدب الوجيز

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى