قراءة في رواية «نزاز»… بهائية الكاتب طلال مرتضى تحمل نذر الفينيق الأول الذي انتصر وانبعث من تحت رماده

محمد رستم

كفاتحة أولى للكلام يعنون الأديب طلال مرتضى روايته بـ «نزاز»، وكما نعلم أنّ العنونة هي العتبة الأعلى للمنجز، إذ ترخي بظلالها على كامل العمل وتنطوي على كثافة تعبيرية ورمزيّة من خلال استبطان الحالة المؤلمة للبطل حيث تنزّ روحه ألماً.. وقد سعى الكاتب إلى انفتاح الدلالة لتأخذ منحى يوسّع معنى حاملها اللغوي ولتكشف مضمرها المخبوء فحال «ساهر» بطلها هي حال «خان السنابل» حيث تنزّ أرضها ملحّاً يجعل مواسمها في حضرة الغياب الذي يأخذ حياة أهلها نحو اللاجدوى..

لقد ولج الكاتب ذائقتنا القرائيّة من باب الحرمان والظلم وسوء المعاملة التي اكتوى بنارها ساهر بطل المرويّة ليدغدغ فينا وتر الإحساس الإنساني بالشفقة والتعاطف مع ساهر الفتى الذي اختطف الموت أمه فحرّم حنانها وابتلي بزوجة أب متحطّبة القلب، مما جعل الكاتب يصقل روايته من وجع الحكاية الذي تعلّق على مشجّب بصيص الأمل الذي أودع عليه ساهر روحه وعلى ضفة نهر الآلام والتيه ألقى رحله..

ولعلّ الإهداء في مقدّمة الرواية يحدّد سمات بوصلتها، حين أهدى ما خلص إليه: «للذين عبروا سريعاً شريط أخبار حرب البلاد… أستعيدهم ببعض مني».

هي تنهيدة ألم تؤكّد صدق الانتماء للوطن، فحين يتكلّم الراوي بصيغة الأنا الفرديّة إنّما هو يتقصّد الأنا الجمعي من خارج شرنقة الذات..

والرواية هي سيرة ذاتية تنضوي تحت عباءة الواقعية الوصفيّة، ففيها تخفيف كبير من التخييل لمصلحة الواقع، ولعلّ مهارة الكاتب أوصلتنا إلى قناعة بأنّ ما سرده هو عين الحقيقة، كونه كان يكثر من الحوار مع الذات وكأنّه يجنح بالرواية إلى النمط النفسيّ وبخاصة تكراره لعقدة فقد الأم مما ترك ندبة عميقة في نفس البطل ساهر يتردّد صداها على امتداد المرويّة، «هي تعرف بحكم الجوار بأنّ أمّ طفلها الأولى لم ترضعه». الأمر مختلف جداً والربط بينهما يكسر قداسة الثدي إذ يجعله نهدا، ولعلّ الكاتب هنا انساق وراء مقولة «الليبيدو لفرويد»، تتعدّد قراءات الرواية فهي من جهة توثّق لمرحلة الهجرة من الوطن خوفاً من حريق الحرب ومن جهة أخرى نلحظ طرفاً من المازوشية يلوّح حين يتناول الكاتب واقعه بالشكل المضحك المبكي فينثر حروفاً مربوطة بمسد الاستنكار الساخر، إذ يهزأ من نفسه ويتهكّم مما يبديه من آراء.

وما أشبه هروب ساهر من قريته نحو المجهول برحلة الإنسان في هذه الحياة «جئت لا أعلم من أين.. ولكني أتيت» لأبي ماضي. ونشير هنا إلى قطبة مخفيّة تعمّد الكاتب إغفالها، وهي أنّ ساهر عندما غادر خان السنابل بلدته كان في نيته بالتأكيد الذهاب إلى دمشق حيث يعمل أخوه وليس إلى مكان مجهول كما في الرواية، ومن ثم جاءت رحلته إلى بيروت كبنت للمصادفة وليس نتاج تخطيط مسبق ليؤكّد الكاتب بأنّ ساهر إنّما يتحرّك في بحر الحياة بلا بوصلة..

ويبدع الكاتب حين يجعل حياة ساهر غير مستقرة فهروبه، وهو فتى من قريته معادل لهروبه من الإرهاب من حيث ضياع البوصلة ومن حيث تحوّل البلاد إلى لعنة الحرب كما خان السنابل الملعونة، أصلاً فساهر منذ نعومة أظفاره أخذت سماء حياته تمطر وابلاً من الفقر والحرمان والظلم فغدا سادنا للتعاسة بكلّ طقوسها وبات الشقاء هو الضمير المستتر خلف لحظات الزمن…

ويشير الكاتب بشكل موارب إلى أنّ البيئة المكانيّة والاجتماعيّة والفكريّة تلعب دور البطولة السلبيّة فهي اليد الخفيّة التي تحرك الأحداث. سواء في خان السنابل أو على مستوى الوطن ككلّ.

ويتألّق الكاتب حين يقيم علاقة عضوية بين المكان «خان السنابل» القرية الملعونة وبين ساهر من حيث الصورة الخارجيّة، فكلاهما مثخن بالتصحّر والشقاء، فالقرية تنزّ ملحّاً وجزؤها القديم غارق في البحيرة، كذا ساهر الذي لا يني يسرق في غفلة من الزمن لحظات المتعة الجنسية كتأكيد على تجذّره في الحياة وتمرّده الجامح على الواقع وتخطيه لوصايا والده، فهو ليس مجرّد فقاعة صابون على سطح الحياة فمضى يتبع صهيل الجسد في ارتشاف عطر الأنثى أية أنثى… فالجنس أولا وأخيراً وحده فعل الحياة إذ يبشّر بالولادة…

لعلّ شعوره بالضنك وانسداد آفاق الحياة أمامه جعله ينفلت كجرم يبحث عن مدار آمن يجد فيه مفازاً للخلاص ومع كلّ طموحه ظلّ رسول الفرح يشاكس زمنه على امتداد المرويّة…

بالتأكيد إنّ تهشم العلاقة الإنسانية داخل أسرة ساهر بسبب زوجة الأب المتحجّرة المشاعر وغياب الأب خلف طقوسه الدينية وتجاهله لوضع ابنه المصبوغ بالفقر والجوع والحرمان خلق لديه اهتزازات ارتداديّة تمثلت في الاستهتار بالقيم الروحية التي يتشدّد السيد بالتمسّك بها، وذلك بممارسة الشبق الجنسي مع أية أنثى تفتح له باب القبول والانضمام إلى مجموعة الشباب التي تسرق بيوت الأهل ليلاً لتستمتع ببعض لحظات اللهو.

إنّ الكاتب يبني من حجارة الفقر والحرمان والظلم والسعي لمكان دافئ مسرح فعالياته السرديّة بدرامية الحدث وتوهجّ اللغة معاً، حيث يظلّ الألم يتردّد في كاتدرائية النفس المتصدعة حدّ اليباس، كيف لا ورياح الخماسين تلاحق ساهر حيثما حلّ.

وببراعة استطاع أن يربط أحاسيسنا بأحداث مرويّته فعشنا لحظات الهجرة المرة لحظة. لحظة، فأدخلنا مع ساهر الذي غدا مجرة من الألم دروب ضياعه وعسر هجرته وحبسنا أنفاسنا للّحظات الهائجة والهائلة من الخوف والضيق وكان كلّما وصل أفقا اكتشف أنّه مرشوش بالوهم والخديعة فتخيب آمالنا لقد صاغ الكاتب من الألم بهائيّة جماليّة ساحرة..

والهدف الإشاري من الرواية واضح وهو تبيان مخاطر الهجرة التي جاءت قسريّة، ومدى مكابدة من يترك وطنه حيث يضرب في المجهول ويغدو شيئاً لا قيمة له، «إذ يصبح مجرد نفر أو رقم» وذلك بعد أن ينخر صقيع الغربة عظامهم ويحرق قلوبهم لهيب الحنين للوطن..

ومع أنّ هجرة «ساهر» جاءت قسريّة كما أسلفت، وكأنّ الوطن قد لفظه لحظة الاحتراق، فقد ظلّ متمسّكاً بانتمائه له ورأيه «أنّ الإنسان بلا انتماء إنّما هو لاجئ في الحياة» وإن أبعدته الظروف جسدا فقد ظلّت روحه تطوف حول دمشق طواف التبرك..

إنها ثنائية الإنسان المعلّق من عرقوبه على شجرة الحياة وصعوبات الهجرة والغربة المشبعة بالانكسارات، هذه الهجرة التي جاءت انزياحا نافراً خارج حركة التاريخ والجغرافية والتي بدا فيها ساهر يدفع صخرة سيزيف في كل خطوة يخطوها..

ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ الدخول إلى عالم الرواية كمقدّمة لم يكن موفقاً، إذ جاء السرد مسهباً مترامي الأرداف، وحبذا لو بدأت الرواية من مقطع «قمر القرية المنكسر».

فنياً، لعلّ أهم سمة في المرويّة هي لعبة الخروج من السياق السردي ومخاطبة المتلقي تحت ذريعة من خارج النص ، وهي أشبه بلعبة المسرح داخل المسرح وبالتأكيد هي تقليعة فنيّة حديثة استخدمها الكاتب كجزرة غواية.

اعتمد الكاتب ازدواجيّة الراوي وبطل المرويّة وهذا يقرب الرواية من الواقعيّة، لكن مفارقة مرّت كثيراً هو إدانته العلنيّة للفكر الطائفي المتخلف، إنّ المؤامرة الكونيّة على سوريّة إنّما اتخذت شكلا طائفياً قذراً.

هذا ويعتمد الكاتب الحداثة في كسر التراتبيّة الزمكانيّة من خلال تقنيّة الخطف، كما لعب الكاتب دور الراصد الرائي المتكلّم بصيغة الأنا، فبدت أناه ممسكة بخيط السرد من ألف الرواية حتى قفلتها.

ونلحظ كيف وقع الكاتب أسير شاعريّته التي تعطّر لغته بالشفافيّة والسحر.. كما عمد إلى التنويع في تقنيات السرد من الحوار المسرحي إلى المنولوج الداخلي إلى السرد الحكائي.

وجاءت أحداث المنجز متسلسلة بعيدة عن افتعال التأزيم المجاني، فدفقت الحياة الكثير.. الكثير من علائقها الصاخبة وفي الوقع كانت الكلمات ألة تصوير ثلاثيّة الأبعاد ترسم بضوء القلب لا العين الشقاء المحيط بساهر الذي جبل بطمي القهر فيحضر أمامك بشحمه ولحمه دون نابضاً بالحياة دون مكياجات داخليّة أو خارجيّة.

لقد وظّف الكاتب خبرته الثقافيّة وحدسه الأدبي المرتفع الوتيرة في فرش وتأثيث روايته التي جاءت كبكائيّة وطن تكالبت عليه قوى الشر كي يحترق، لكنه بقي مدركاً بأن هذا الوطن أولاً وأخيراً هو سورية التاريخ، سورية الفينيق الذي انتصر وانبعث من تحت رماده.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى