الفنان د. إيلي بيطار… حالة خاصة مع الفنّ ورؤية موسيقيّة فريدة لترميز الزمن الجميل

جهاد أيوب

نجح في مهنة الطب، ليس عابراً فيها، بل لديه مؤسسة ضخمة تدخل كلّ بيت، حاسم، مباشر، لا يمالق في الطبّ لا مع موظفينه أو مرضاه، ولم يبخل بتقديم ما هو قريب لمريضه حتى غدى صديقاً ناجحاً!

هو الطبيب الفنان، طبيب الصحة، وفنان العلاج بالكلمة واللحن، والأهمّ كرمه الحاتمي في دعم من يؤمن بموهبته، هو الدكتور إيلي م. بيطار.

يتعامل مع الطبّ كما يتعامل الرسّام مع ريشته، والكاتب مع قلمه، والشاعر مع أوراقه، والمطرب مع لحنه، وهذا جعله يزاوج الطبّ مع الفنّ دون أن يزعج المريض والفنان الموجود بداخله، ومن يتعامل مع الفنانين!

ابتكر الدكتور إيلي فكرة طبية جديدة تكمن في أن يجعل من الفنّ وحديثه وألوانه حالة علاجية، وقد نجح في ذلك، وأول ما قام به أن شرح لمرضاه سيرة حياة الأسطورة صباح، وفسّر أسلوبها في فهم الحياة، وناقش أغانيها مع مرضاه فكانت النتيجة أن مرضاه بفضل هذا العلاج تصالحوا مع مرضهم والحياة، وتفوّق في الوصول إلى نتائج لصالح العلاج ونجاح حياة المريض.

وهكذا عالج مرضاه من خلال الحديث عن الفنّ وأهله، والخوض بالغناء الجميل ووفق بذلك!

وبما أنّ غاية حكمته أن يصول على هذا الزمن بحنكة لا تشبه السائد، ولا تبقى مسكونة بالماضي، ولا أن تسجن بالقديم، بل أن يأخذ من ذاك الأساس ما يخدم الحالة المعاصرة فقرّر أن يخوض ساحات لم تعد تعرف فنونها ليزرع خبرته في عشق الموروث بشفافية وبمسؤولية، وهذا فتح أمامه مجالات فنّية منوّعة، ومنها:

ـ جمع في منزله مكتبة غنائية ثريّة، ضمّنها الكثير من الصور لكبّار الفنانين خصوصاً المطربين.

ـ شكّل مجموعة ضخمة من أعمال كبار ذاك الزمان، وربما لديه الأعمال النادرة وغير موجودة عند الورثة، أعمال نادرة من هنا وهناك، وبأصوات نادرة من الأسطورة صباح إلى كروانة الغناء العربي سعاد محمد، والصوت الأجمل نور الهدى، وأستاذة الغناء نجاح سلام، ونازك، ولور دكاش إلخ…

ـ أفلام عربية، ومسرحيّات وكتب فنية، وأشرطة يحتفظ بها لا يُستهان بمضمونها.

ـ خبريات، معلومات، أسرار في ذاكرته، وفي مكتبته حاضرة ومتوهجّة.

هذا ولّد لديه نعمة السمع الصحّ، وموهبة الشعر والتلحين، ومساعدة الأصوات الشابة، والصرف على الفنّ الذي يحبه من جيبه، وما يجمعه من الطبّ يصرفه على عشقه الفنّي!

غامر في زمن التشويه بكثير من التجارب، قدّم وجوهاً جديدة نجحت فصدقت أنها أكبر من غيرها فغابت عنها الشمس بسرعة البرق، ودعم وجوهاً نجحت في برامج منوّعة وأُهملت، فأخذ بيدها ودعم موهبتها، ولكن عقدة خطف الشهرة، وتسابق الجميع لمنافسة هوجاء دون التروّي جعل بعض من يمتلك الصوت الجميل لا يمتلك الصبر، وانتظار فرصة الحضور، فكان الرحيل دون اكتمال العقد.

واستمرّ بيطار بالبحث والمساندة، ولا يكلّ، وأحياناً يجد ضالته لكن ظروف العمل وطبيعة ظروف الفنان أبعدت التواصل، ولا زال يبحث، وينتعش إذا وجد الصوت الجميل.

يضع خبرته، ودعمه المالي والإعلامي، ومسؤولية كيفية ظهور الفنان، وقد ينزعج بعض من يتعامل معه لجديته في فهم الفنّ والإطلالة، ويختلف بعضهم معه لكونه يصرّ أن يأخذ الموهوب حضوره بجديّة الماضي كما حال عبد الحليم وفريد وعبد الوهاب فيصدم بأنهم يرغبون بمستوى «نايت كلوب» لتقع القطيعة!

قد أختلف معه في كثير من أسلوب فهمه لعمله، هو يصرّ أن يتواصل مع الماضي الجميل دون تقنية التوزيع المعاصر، وأنا أؤمن بأنّ اللحن اليوم يحتاج إلى ما يشبه زمانه، وهو يبرّر أنّ كلّ من يغني اليوم يعيش على ما تركه ذاك الزمان بما حمل!

وأيضاً نختلف في طريقة الطرح والسوق والإعلام لكونه لا زال مقتنعاً أنّ العمل الجميل والجيد يفرض نفسه، بيما أنا شخصياً أجد عكس ذلك في هذا الوقت القاحط والمحسوم والمحسوب على الميديا.

أشعاره شفافة، غنيّة بالصور الجميلة ولا مفردات مقحمة وغير مفهومة، وألحانه تشبه النغم التراثي، وبحثه لا يشيخ، ومع ذلك يصرّ أن يبقى في بحثه إلى لا نهاية…

هذا الطبيب الفنان لا يشرك الأمور الشخصية بالعمل، ولا يرحم في إعطاء رأيه، ولا يجامل في بوحه، ولا يبخل على أعماله، ويصرّ أنّ الفنّ الجيد يشفي العليل، ولا يقبل أنصاف الحلول، ولا يرحم إذا طلبت رأيه، ولا يحقد لكنه يحسم، ولا يقف عند من يترك شراكته بالفنّ، بل يترك ما قام به ويذهب بعد نفس طويل عميق إلى ضفة آخرى على أمل أن تتضح الأمور عند غيره… عيبه أنه يذهب مع من يكتشفه إلى الآخر مع تعصّب، وحينما يتمّ الفراق أيضاً يحسم التواصل بالقطيعة دون رجوع… ربّما الزمن علمه، والأيام فاضت بدروسها الواضحة لديه!

الدكتور إيلي م. بيطار حالة خاصة مع الفنّ، وصفحة حسّاسة في الفنّ، وجرأة في التواصل مع سطوره، ويجمع الذوق والشعر واللحن على طريقته وافقته أو اختلفت معه، باختصار هو يفهم الفنّ كما يفهم الطب أيّ علاج الوجود، وهذا يتطلّب جرأة، وكرم، ومقدرة على التواصل مع الآخرين… ومع ذلك شكراً لهذه القامة التي تسير عكس السائد، وعكس السير، وعكس التيار، ولا يحب الظهور الإعلامي، وقد ينزعج من كلام…!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى