الأدب الوجيز حركة تجاوزيّة نقديّة

أمين الذيب

يُشكّل الأدب الوجيز النتائج المرجوّة بطبيعته الدلاليّة، موقفاً ثورياً حاسماً في مسألة الجدل النقدي والأكاديمي الحاصل منذ السبعينيات حتى يومنا هذا. الفصل بين مفهومين لهذا الأدب التجاوزيّ، مفهوم متردّد إزاء أي إبداع جديد بحكم تعلقه بالماضوية كثابتٍ، ومفهوم الحداثة غير المتأثر إلا بما هو جديد، يبني حداثته التراكمية التجديدية، على قاعدة أن التطور حالة إنسانية مُلحّة، لذلك نجده منحازاً الى شهوة التغيير والإبداع، كما يقول أدونيس.

في السياق التاريخي لنشوء هذين المذهبين، من الشعر والقصة، نجد أن آراء النقاد والمهتمين بالمسار الحضاري الإبداعي، قد تباينت الى حد التناقض في معظم الأحيان فتطوّر المدارك والمفاهيم، وتعميق رؤيتهما للكون والحياة والفن والجمال، قد تبدّلت بتبدل مفاهيم العصر والزمان.

هذه المسألة يرى اليها البعض، وأنا منهم، على أنها، أي شعر الومضة شعر النُضج والدهشة في أبهى تجلياتهما. فهو شعر الصمت الإيجابي، كما يعتبره البعض، الناجم عن التأمل العميق المرتكز على تجربة شعرية مُتأصلة في مواكبة الأزمان الشعرية ومراحل تطورها وتجددها وانبعاث قيمها السياسية والاجتماعية والأخلاقية.

وهكذا نرانا ندفع باتجاهها، لما تكتنزه من كثافة مُدهشة في اللغة ورحابة في المعاني، فكلما قصُرت المسافة أو الطريق بين المُبدع والكون، وبين المُبدع والمتلقي تكثف النص الشعري ليتبوأ، كما أراه مرحلة البلوغ الشعري. فالشعر، عربياً كان أم غربياً هو عودة من اللطافة الى الكثافة، هو إدراكٌ شعوري مُتقدم تكاد معارفه أن تكتمل.

بالحقيقة أنا لا أستغرب أن تتعدّد آراء النُقاد حوله، واعتباره سبباً إشكالياً مُضافاً، أكان عن حداثته أو عدميتها، أم هو وليد عصر العولمة والمعلوماتية، ومن اعتبره استنساخ شعر الهايكو الياباني، أو شعر المُثقفين فقط، للتمكن من تفكيك رموزه وإيحاءاته ودلالاته.

الناقد مجدي ممدوح على سبيل المثال، يعتبر أن هناك إشكاليّة تتعلق بمسألة التحقيب. في ما يخصّ القصيدة القصيرة، فيعتبرها وليدة عصر المعلوماتية، وتأثرها بقصيدة الهايكو، التي كان نشوؤها في القرن السابع عشر، وقد نسج العديد من شعراء العرب على منوالها.

ولكننا نرى أن عز الدين المناصرة بتوقيعاته قد تجاوز ما سلف عند ممدوح.

بالواقع هناك مدى واسع من الآراء النقدية، شأن أي تجديد يحدث على ساحاتنا الشعرية والقصصيّة والرواية والمسرح وباقي الفنون، بات يصعب تحديده وتوصيفه تحت تجنيس أدبي مُحدّد، وهذا لا يعود الى إشكاليّة النص التجاوزي بقدر ما يكون أحياناً ضحية بعض الآراء النقدية التي لا تقبل بسهولة بأي حدث جديد لوقوعها تحت تأثير الماضوية وتسعى إلى تخليدها بقتل ما يمكن أن يتفرّع أو يتطوّر خارج إطار مفاهيمهم الثابتة.

وعلى سبيل المثال أيضاً، نرى أن عبد المعطي حجازي، يعتبر أن القصيدة لا تأخذ قيمتها من طولها أو قصرِها، إنما قوتها الإبداعية تجعل منها قصيدة خالدة.

ويُجاريه في مُحاباة هذا الرأي الشاعر والمُترجم رفعت سلام، أما الدكتورة بشرى البستاني فتعتبر أن شعر الومضة يتّسم بوحدة الموضوع وكثافتهِ وبالقدرة على إثارة التأمّل والدهشة في مُتلقيه ومن سماته أنه حركي وذو قدرة على العبور، زماناً ومكاناً.

إذن نستخلص من بعض الآراء التي استنطقناها، أن شعر الومضة، يتبدى في أساليب وأشكال كثيرة في التعبير عن غايته. على سبيل المثال، ومضة السؤال، ومضة النفي ومضة الإثبات والتعجُب، ولعل ومضة السؤال هي التي تكتنز طاقة مهمة على تفجير الدلالة لما في السؤال من قدرة درامية على الاشتباك بين أكثر من شخصية وإشكاليات من لبس وغموض.

إن الاستئناس بآراء بعض النُقاد، وهناك كُثُر غيرهم، إنما كان استقطاباً ربما يُغني الموضوع ويُضفي عليه حيوية الاستماع الى الرأي والرأي الآخر، كان لإظهار وجهات نظرهم في الموضوع، الذي نسعى بهذه العُجالة لتبيان التقارب والتباعُد بين شعر الومضة والقصة القصيرة جداً.

سبق شعر الومضة الذي ظهر في سبعينيات القرن الماضي، القصة القصيرة جداً التي بدأت بالظهور في بداية التسعينيات من القرن نفسه.

انبرى شعر الومضة لينتزع مساحات هامة، كأنما هو خُلاصات مُكثفة لتجربة الشعر، وكانت كثافته دليل بلوغ معرفي يُتقن التواصل بين الشاعر والحياة، بأقل الكلمات وأوسع المعاني. فكان شعر المعرفة بامتياز.

يرتشد كل من شعر الومضة والقصة القصير جداً بالإيجاز والكثافة ويشتركان في الترميز بديلاً عن الإسهاب السردي.

ظهرت القصة القصيرة جداً، كجنس أدبي جديد، استجابة لمجموعة من الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية المُعقدة، تمتاز بقصر الحجم والإيحاء المُكثف، تعتمد التلميح والاقتضاب وتجنح نحو التجريب والتصوير البلاغي الذي يتجاوز السرد المُباشر الى ما هو مجازي وبياني. ورغم تباين آراء النُقاد حولها، فقد أجمعنا على تسميتها الراهنة، وذلك لتوافر السرد القصصي، والكثافة ذات الأبعاد الإيحائية.

نحن هنا أيضاً لا يمكِنُنا أن نُغفِل نزعة العديد من النُقاد واستنفارهم الدائم للدفاع عمّا يسمونه الأصالة، وإظهار التخوّف من كل ما هو حداثي وتجريبي جديد.

بالمُقابل هناك العديد من النُقاد يعتبرون ان الكتابة الثورية هي التي تميل الى التغيير والتمرد على كل ما هو ثابت.

نرى في سياق المُلاحظات التي ساقها العديد من الكُتّاب والنُقاد في مسألة القصة القصيرة جداً، أيضاً على سبيل المثال، ما أوردهُ أحمد جاسم الحسين، ومحمد محي الدين مينو، والدكتور حسن المودن في شعرية القصة القصيرة جداً، وكذلك محمد علي سعيد وحسين علي محمد أضاءوا على مسألتي التشكيل والرؤية، وعدنان كنفاني، إشكالية في النص أم جدلية حول المُصطلح ، ويوسف الحطيني في القصة القصيرة عند زكريا تامر، وسوى ذلك الكثير من المقالات والكتب والآراء، التي أغنت الى حدٍ كبير مفهوم القصة القصيرة جداً.

وإذا عدنا الى المعيار الفني التقني نجد أن الخاصيّة القصصية والمقوّمات السردية كالأحداث والشخصيات والفضاء المنظور والبُنية الزمنية وصيغ الأسلوب، كلها توظف بكثافة رمزية إيحائية، تجعل القارئ يبذل جُهداً كي يتفاعل مع النص ومدلولاته، في الشكل يعتمد نص الـ ق. ق. ج.، على تحفيز ذاكرة المُتلقي وحثّ خياله تماهياً مع طبيعة النص الومضي، لما ينتابهُ من تأويل وتفسير واستنتاج إيديولوجي خاصة عند الروائي المغربي حسن رطال، في الثأر، وماسح الأدمغة وسواها حيث تُضفي خاصية الاختزال والتوازي والتشظي البنائي الانكسار التجريبي كمقومات أدبية راقية ومُتقدمة.

إن إسلوبية النص في الـ ق. ق. ج.، تتماهى مع كافة المذاهب والأجناس الأدبية الأخرى، ولكن بأسلوب موجز وقصير، يثير القارئ لقدرتها على تصوير الذات في صراعها مع كينونتها الداخلية والخارجية.

في الخلاصات: كلا الجنسين الأدبييَن يشتركان في التكثيف والإيجاز والإدهاش والترميز والدلالات الومضية، وهذه التجانسات ترمز الى تجاوز الراهن تجاوزاً يكاد يكون تاماً.

تتالياً يشتركان في تأسيس أنماط أدبيّة جديدة تجاوزيّة بطبيعتها.

في التباعد: شعر الومضة، أُنجز الى حدٍ كبير، في العديد من النماذج المُتداولة، مساحة النص كما نعلم أصغر من مساحات المعنى ومدلولاته، والمُتلقي شريك الشاعر، في التحليل كقوة ذهنية تعمل على تفكيك النصوص، وأحياناً كثيرة يدرك القارئ صور النص السينمائية كما يراها هو، وهذا ما يُعرف بالمعرفة التوالدية.

القصة القصيرة جداً، تشكل نمطاً رائداً إذا لم تجنح الى اعتماد النص الشعري الومضي على متنها، بالرغم من أن هناك من دمج النص الروائي التقليدي بشعرية تُضفي أسلوباً شيقاً من شأنه في كثير من الأحيان أن يُخرج القارئ من السرد المُمل، ولكن في القصة القصيرة جداً تتحول شاعريتها من نص سردي الى قصيدة نثر وهذا يتنافى مع طبيعة النوع ودلالاته. فالقصيدة هي التقاط لحظة زمنية وتصويرها، أما في السرد القصصي فالذي ينبغي أن يتجلّى هو النص السردي.

في النهاية، إذا اعتمدنا أن التطور هو سياق إنساني حتمي، لا بد لنا أن ننحاز الى الأدب الوجيز ليس فقط كمجاراة للعصر المنغمس في حيثية التواصل الاجتماعي، بقدر ما هو حالة معرفية مُكثفة تشق مدارك المعرفة التي هي قوة فكرية وفلسفية تطبع المجتمع بطابعها، كمرحلة تجاوزية مُلحّة.

مؤسس ملتقى الأدب الوجيز.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى