الأزمة المالية والاقتصادية في لبنان… بين التقشف والتغيير المطلوب

حسن حردان

لم تكن الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان والمسؤولة عن استفحال وتفاقم الأزمة المالية والاقتصادية والاجتماعية، تنتظر أن تشترط الدول المانحة وصندوق النقد والبنك الدولي تقديم القروض بموجب مؤتمر سيدر، قيام الحكومة اللبنانية بإجراءات تقشفية تخفض العجز في الموازنة البالغ 11.5 في المئة، بنسبة 5 في المئة على مدى خمس سنوات، أيّ بمقدار واحد في المئة سنوياً… ولا شك في أنّ هذا الشرط هو ما أجبر الطبقة السياسية، مكرهة، على البحث في ماهية الإجراءات التقشفية التي ستقدم عليها، لو كان الأمر يعود إليها لما كانت أكترثت لمخاطر ازدياد العجز وحجم الدين والفوائد المتزايدة المترتبة عليه، لأنّ هذه الطبقة التي أغرقت البلاد في الديون لا يهمّها سوى تأمين المزيد من القروض ومواصلة الإنفاق بدون حساب، وانْ تجاوز بشكل خطير نسبة المداخيل… ومع ذلك عندما بدأت هذه الطبقة السياسية نقاش سبل خفض العجز لجأت مباشرة كعادتها إلى التفكير في خفض رواتب وأجور الموظفين والعسكريين وفرض سلة جديدة من الضرائب غير المباشرة، التي تحمّل العمال والشغيلة والفئات الصغيرة والوسطى المزيد من الأعباء المعيشية التي تقود الى تراجع مستمرّ في قدرتهم الشرائية، وبالتالي زيادة حدة الفقر والحرمان لدى الفئات المحدودة الدخل… وتجنّبت الطبقة السياسية، بل ورفضت تحميل الأثرياء وأصحاب المؤسسات المالية العبء الأساسي لمعالجة الأزمة، انطلاقاً من قاعدة أنّ الأكثر قدرة ودخلاً يجب أن يتحمّل أكثر، كما امتنعت عن التفكير في اتخاذ إجراءات لتحصيل حقوق الدولة في الأملاك البحرية التي يستغلها أصحاب الثروات والشركات التي تجني من ورائها الأرباح الطائلة.. ما يعني انحيازاً من الطبقة السياسية الحاكمة إلى جانب أصحاب المصارف والشركات المالية والأثرياء، الذين تشترك معهم في تقاسم هذه الأرباح.. لذلك كان من الطبيعي أن ترفض هذه الطبقة مجرد النقاش في الأسباب التي أدّت إلى غرق لبنان في الديون والأزمة المتفاقمة، وبالتالي البحث في ضرورة إعادة النظر في السياسات الريعية المسؤولة عن هذه الأزمة.. أو مجرد البحث في سبل استعادة الدولة لأهمّ القطاعات التي جرى تخصيصها، وكانت تؤمّن مداخيل هامة للخزينة، وأهمّها.. النفط والمعاينة الميكانيكية والخلوي والبريد واشغال البلديات والمرآب والكافتيريا والسوق الحرة في المطار إلخ… في حين تتجنّب وترفض استعادة أموال الدولة المنهوبة من كبار الفاسدين الذين أثروا خلال توليهم مراكز هامة في الدولة والحكومات المتعاقبة منذ عام 1993 وحتى اليوم، وتستسهل الإقدام على اتخاذ المزيد من الإجراءات التي تمسّ بمصالح الطبقات الشعبية والمحدود الدخل حتى ولو كانت ستؤدّي إلى دفع البلاد الى أتون الانفجار الاجتماعي.. بل أنها لا تخجل من دعوة الفقراء وأصحاب الدخل المحدود إلى تحمّل إجراءات تخفيض رواتبهم وفرض ضرائب جديدة غير مباشرة تضعف قدرتهم الشرائية…

إنها الرأسمالية الريعية التي أتقنت تنفيذ وصفات صندوق النقد والبنك الدولي التي تسبّبت في إشعال انتفاضات وثورات في الكثير من الدول وجعلها مرتهنة للمركز الرأسمالي الغربي الذي يستخدم الصندوق والبنك أدوات مالية لإخضاع الدول وجعلها تدور في فلك سياساته الاستعمارية.. ولبنان منذ زمن بعيد ينفذ سياسات ريعية تقوم على الاستدانة ورفع يد الدولة عن لعب أيّ دور في إدارة قطاعات خدماتية أو غير خدماتية، والتخلي عن دورها في الرعاية الاجتماعية، وبالتالي تقليص دور القطاع العام لصالح القطاع الخاص، ولهذا جرى تنظيم حملة منظمة لتخصيص القطاعات الخدماتية الرابحة، واعتماد سياسة ضرائبية جعلت من لبنان جنة ضريبة للمستثمرين من أصحاب الثروات الذين راحوا يوظفون أموالهم في سندات الخزينة والشركات العقارية، ما أدّى إلى المزيد من تهميش القطاعات الإنتاجية من زراعة وصناعة وسياحة وهي أصلاً قطاعات جرى تهميشها بحجة أنّ لبنان بلد خدمات وهو الدور المرسوم له في إطار مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي جرى الترويج له باعتباره قدراً محتوماً، وانّ الدين الذي بدأ يتراكم على لبنان سوف يتمّ إعفاء لبنان منه في سياق التسوية التي ستحصل للصراع العربي الصهيوني، وطبعا كان يعوّل على قبول لبنان لمشروع التوطين مقابل شطب الديون المترتبة عليه..

اليوم لبنان يدفع ثمن تطبيق هذه السياسات الريعية وربط اقتصاده بوشائج التبعية للمركز الرأسمالي الغربي.. ولهذا لا ينتظر أحد في لبنان أن تتخلى الطبقة السياسية عن هذه السياسات، أو تقدم على مراجعة سياساتها التي أفقدت الدولة جميع مواردها، وحوّلتها إلى جابي ضرائب لا يرحم الفقراء والطبقات الشعبية.. ولهذا فإنه لن يكون أمام الفئات الاجتماعية المتضرّرة من هذه السياسات الريعية، الاقتصادية والمالية والاجتماعية، والقوى السياسية صاحبة المصلحة في التغيير، لن يكون أمامها سوى توحيد قواها للتصدي لهذه السياسات التي تهدّد بدفع البلاد نحو المزيد من الاضطراب الاجتماعي، والنضال لإحداث تغيير حقيقي وجذري في السياسات الريعية لصالح اعتماد سياسات تقوم على التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية واستعادة الدولة لمواردها الأساسية.. وعبثاً الرهان على صحوة ضمير الطبقة السياسية الريعية بأن تقدم على الانقلاب على مصالحها.. بل إنها ستدافع عن هذه المصالح ولن تتوانى عن الاحتماء بالمذهبية لحماية هذه المصالح، ولا يهمّها انْ أدّى ذلك إلى الانهيار والإفلاس..

ألم ترفض الطبقة السياسية الحاكمة في البلاد عام 1974 إجراء إصلاحات سياسية واقتصادية تجنّب اللبنانيين الانزلاق إلى الحرب الاهلية، وهي لم تتوان عن اللجوء إلى استخدام القمع واغتيال الشهيد معروف سعد لحماية شركة بروتين في احتكار بحر صيدا وحرمان الصيادين من مصدر رزقهم…

انّ وعي اللبنانيين لطبيعة الأزمة والسياسات المسؤولة عنها وإدراك أهمية توحدهم للدفاع عن حقوقهم والعمل لتغيير السياسات الريعية التي أثرت القلة وافقت أغلبية اللبنانيين، هو الشرط الضروري لتغيير النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي المسؤول عن أزماتهم المختلفة.

كاتب وإعلامي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى