هل نحتاج إلى ناقد الناقد والخروج من التداولية؟

سيد محمد الياسري

حين يكون النقد معياراً للنصوص، أو بحدّ ذاته مَن يخلق معياريّة لتميّز الذوق، والحاسة أو ينوب عنها، يتحتّم على النصّ أن يرضخ له، وإن الكثير من الكتّاب يعدّلون ذلك النصّ، ترتيباً مع الناقد، بل يظلّ التداول قائماً عليه، يمكن أن تكون تلك «التداولية» هي البقاء الأصلح للتاريخ برمّته، ربما تأخذ بعض الدراسات طريقاً آخر في مناقشة التداولية إلا أنها في النهاية تجد نفسها في منعطف يعود إلى المعطوف عليه: الناقد.

الناقد هو مَن وضع التداولية ويمكن أن تكون التداولية في كل شيء، الأدب، التاريخ، الجغرافية، العلوم، الأحاديث، علم الرجال والسياسة.. الخ، ويمكن أن يكون الناقد الحاكم أو السياسي أو الراوي أو المنقّح أو صفة من هذا أو ذاك ولو تصفّحت كتاباً قديماً عن علم الرجال لوجدت السيرة كلها عبارة عن استنساخ للكاتب الأول الذي ثبّت ونقد إن كان نقده قدحاً أم مدحاً، ذكراً أو تاريخاً. فيبقى الأصل نصّاً واحداً أخذ ينتقل بعناوين الكتب. وهذه المعلومة هي نفس العملة التي تتداول بين الناس ليشتري بها خضاراً أو ذهباً.

مشكلة التداولية إنها ثابتة وقد عبر عنها في علم الاجتماع ثاية كما تسميها العشائر التي هي جزء من التداولية للأعراف والمواريث والتقاليد والفلكلور والشعر الشعبي.. الخ، بينما تعتبر مقدسة بعلم الرجال والأحاديث وهي فوق المساس بالأدب حتى أي خروج عن مفهوم الفهم او خصائص الفهم ليس لك حق التصرف فيه، ولعل فلسفة تطوّر الذات هي عبارة عن تداولية وثورة ضد التداولية، بتعبير آخر هي القدرة على الصراع، كي يبقى البحث قائماً، أي أنها لو لم تخلق التداولية تلك الذاتية ليمكن أن نقول: إن العلوم لم تتحرّك ولا سيما الكلامية منها.

قد حدثت محاولات كثيرة لنقد التداول، إلّا أنها بقيت آثاراً فردية وإن حظيت في العصر الحديث من اهتمام بالغ، إلا أنها ظلّت تعتمد على إطار الصراع ولعل إبن جني وإبن سيدة والبلطيوسي والجرجاني عبد القادر وغيرهم من الأدباء حاولوا أن يضعوا تفسيراً إلى ما نقلته التداوليّة. وفي بعض التفسيرات هي عبارة عن محاولة جادة في الخروج عن الثوابت النقدية، كما هي محاولة الجرجاني في لغة البراغيث في تفسير الواو في كتاب المقتصد ومحاولات البلطيوسي في نقده للزجّاج في كتابه الجمّل وكتفسير النحوي للقرآن أو كتابته لماذا كتبت تاء مبسوطة، وهي بالأصل مربوطة، فيجدون الأسباب لهذه من خلال التداول ثم يضعون تفسيراً لها، لكن مما يثير أن يتلو فعل مضارع فيه ألف التفريق! لماذا؟ لم يكن ثمة جواب مقنع.. وغيره من الكتب التي أعطت تفسيرات ومن خلال التفسيرات أعطت منحىً آخر بعيداً عن التداول الذي اشتهرت به الكتب حين يحدد مفردات خاطئة ويضع لها مساراً جديداً وجديّاً.

فلسفة النقد في حدودها: لا حدود إيجاد أعمق نقطة يتوصل إليها الناقد في النص، بينما اليوم تختنق تلك الفلسفة بالحدود حين نجد الناقد عبارة عن تداولية، وربما لأن أكثر النقاد الآن أكاديميون لا يرون إلا بوضع بحوث وأطروحات من اجل الشهادة لذا نرى الأطروحات تشبه بعضها البعض وإن اختلفت بتلك العناوين الرنانة. وهذا ما يطفو للسطح ولا سيما بالتطبيقات والبحوث التي تهتمّ بالاستبانة وبالنصوص التي يأخذها طالب البحث يحرص أن تكون فيها التداولية واضحة. وهو من دون التداولية نراه لا يستطيع أن يكتب شيئاً نستثني المبدعين لأنهم كسابقيهم انفراد في التفسير ويحاولون أن يصنعوا جديداً وهؤلاء على عدد.

من المؤسف أن الناقد حين يطرح مفهوماً لا توجد له فكرة الناقد الناقد أو موضع نقاش أو تأييد ألا بإطار التداولية، لذا تكون ردّة فعل المقابلين له، لم نجده هنا، أو أنه لا يوجد له مصدر على ذلك وبهذا تكون فكرة الإنتاج الجديد والخروج من إطار فهم الناقد القديم، لا تنجح أبداً في الأكاديمية، وذلك لأن الخطوط العريضة في هيكلية الأكاديمية تتبنّى التداولية بصورة مباشرة ولا يمكن أن يجازف الطالب بشهادته كي يثبت للجنة المناقشة هذا إذا وافق المشرف على ذلك على صحة هدفه وقد ترفض رسالته ويصبح تعبه في مهب الرياح تذروه في وديان الماضي والنسيان.

المثقف اليوم يبحث عن ناقد الناقد أو الناظر، يمكن ان ينظر للنقد ويعود به إلى المسار الصحيح في كل شيء، كنص أدبي، أو عمل سياسي أو عرف اجتماعي. فالناظر موجّه إلى تلك التداولية التي يجب أن تكون في محك السؤال: هل هي على صح أم خطأ؟ كما أن القرار يحتاج له تفسير من دون الإسناد إلى التداولية فترهقه، ويمكن أن يكون النقد غير قادر على الحياة بعبارة أنه لا يمكن أن يسند إليه ويكون مصدراً يتداوله الجميع أو يكون شرطاً من شروط الصحيح.

حاجتنا إلى ناقد الناقد قد تغيّر المسارات السياسية التي باتت تضيق أفقها بالتداول فلان حكم وفلان لم يحكم بالصورة نفسها، والمقارنة الجائرة التي لا تعطي إلا نقيضاً آخر من الفشل، كمقارنة السابق باللاحق وكلاهما مملوءان أخطاء وجريمة، فهي لا تخصّ فقط الأدب والنصوص، بل تخصّ كل المفردات التي تحيطنا ومن أهمّها السياسة والدين الذي بدت به التداولية أفضح من كل المفردات الأخرى، بل إنها استنساخ، كما نرى أن أكثر الكتب الدينية هي عبارة عن استنساخ تدور على تداول واحد في مفهوم ومجرد خروج العناوين من التداولية.

الصحافة كذلك تعاني من التداولية ولعلّ أبرز الصحف وأقدمها هي عبارة عن تداولية في موضوعاتها حتى أن قبول النصّ ورفضه يتحتّم لا على فكرة الناقد الناقد أو الناظر الجديد، بل على ان توضيح تجاوز ما هو متعارف من شروط النقد ووضع معيارية الصحافة. ولهذا نجد ان المبدعين يتنقلون بين الصحف حين يخرق ذلك النظام ولا يعترف بالناقد الناقد.

لا شيء جديد في تنظير العربية الا المحور ذاته. هذه هي الحقيقة في العلوم العربية وعندما تدخل مكتبة ضخمة، ستجد التداولية ليس في الجدران فقط، بل في الباعة، في الشارع، في المطبعة في التعامل.

عندما حدث المتنبي نفسه أن الأعمى ينظر لأدبه والأصم يسمعه، كان يريد أن يخرج من هذا الإطار كما يحاول بعض الشعراء الآن إلا أن المشكلة أن التداولية خنقت المتنبي على كثرة دارسيه، حيث أي مجهود وأحاسيس وأفكار يخرجها أي شاعر يختنق أيضاً، لأن جميع النقاد يبحثون عن المشرط الذي شرّح جسد المتنبي ليشرّح جسد الشاعر الجديد. ولهذا نرى ان الشاعر والقاص والروائي لا يرى ان الناقد وصل إلى أحاسيسه أو فسّرها من خلال نصه. وهنا تبرز الحاجة لمعرفة الناظر ثم المحلل وعليه يجب أن نسأل: الناقد القديم الذي أصبح مشرطه واجباً ومصدراً كيف وصل للمعنى بالذوق أم الدراسة؟ وأياً تكن الإجابة فلا بدّ من أن الجواب فهو من استحدث المشرط، فلماذا لا يكون مشرطاً جديداً للنصوص الآن على الأقل الحديثة منها.

كاتب وأكاديمي/ بغداد.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى