كيف ننقذ الصحافة والصحافيين؟

جوزف القصيفي

قال السيد المسيح: «تعرفون الحقّ والحقّ يحرركم».

وقال عمر: «متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً»؟

وقال الإمام علي «لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرّاً».

وقال مار توما الاكويني «إنّ الله الذي خلقك من دونك، لا يستطيع أن يخلّصك من دونك».

هذا التلازم بين الحريّة، والحقّ والإرادة، هو جوهر الحياة الإنسانية، فلا تضادّ بين هذه الأقانيم، بل تكامل يطلّ على أسرار الوجود.

فالديانات السماوية، والفلسفات الوجودية تلتقي على تقديس الحرية، لأنها حقّ لكلّ إنسان، وليست منحة أو هبة من أحد.

واللبنانيون، والصحافيّون منهم في الطليعة، حبّروا بدمهم، وثيقة الحرّية، حتى إذا عفّ لونها، أعادوا صباغها من جديد. وهم أدّوا جزيتها، عندما تقدّمت مواكبهم إلى أعواد المشانق في العام 1916، يجودون بأغلى ما ملكوا: أرواحهم، التي سمت فوق جبروت الموت، وظلّوا يغدقون بسخاء حتى يومنا هذا، دماً يستسقي دماً، من أجل أن تبقى رايتها مرفوعة تتحدّى الزمن، وبطش الطغاة، تحكي حكاية الآباء، وشمخة الجبين.

وأنّ من يمسس الحرّية في لبنان، هو كمن يهوي بفأس على جذع أرزة، ومطرقة على واحد من أعمدة بعلبك.

إنّ الحرية محور الحياة الدنيا، حدودها الضمير والقانون والشعور بالمسؤولية، وإلاّ يكون التحوّل عن غائيتها، معادلاً لإلغائها.

المشكلة اليوم لا تنحصر بثنائية الحرية والمادة. انها مشكلة قائمة ومزمنة. فالأساس يكمن في الدور والرسالة، كونهما ضمانة القيم الأخلاقية والاجتماعية التي يتعيّن على كلّ إعلامي التحصّن بها. وفي هذا المجال علينا الالتفات الى الوضع الجديد الذي أوجده التطوّر الرقمي، وما أحدثه من ارتدادات، ما يتطلب التفكير بمقاربات مختلفة لدى البحث في واقع الإعلام ومرتجاه.

هنا المعادلة الخطيرة، التي لا بدّ لها من بوصلة تهدي، وتفتح الطريق أمام السير بين الخطوط المتعرّجة، والصحافي هو حامي الحريّة، ورأس حربتها، ولأنه كذلك، فمن حقّه على دولته أن تكون إلى جانبه، وأن تقف على معاناته، وتحصّنه بالرعاية التي تقيه شرّ العوز، في هذه الأيام العجاف، ليتمكّن من أداء رسالته بتجرّد، والإضاءة على مكامن الخطأ – وما أكثرها – في مجتمعه، ليجتنب الوقوع في الخطيئة.

في اليوم العالمي لحرية الصحافة، نشهد للحقّ والحقيقة، داعين الزملاء إلى الانقياد لمثلها، ليقودوا الناس إليها. وهذا لا يكون إلاّ بإنقاذ الصحافة والصحافيين، لأنهم شكلوا الذاكرة الجمعية للوطن وأبنائه، وكتبوا مسودة تاريخه، وسجلوا وقوعاته، وكانوا علامة ازدهاره.

حريّة الصحافة في لبنان جعلته ملاذاً لكلّ من نبت به أرضه، وعبست في وجهه الأقدار، وأصبح بفضلها مطبعة الشرق، ومكتبته، ومسرحه، وجامعته، ورافداً رئيساً لاقتصاده الوطني. وأعطته هويته «الكوزموبوليتية»، ولم تكن يوماً عالة عليه. ويوم كانت صحافة لبنان بخير، كان لبنان بألف خير.

والدولة اللبنانية مؤتمَنة على هذا التاريخ الثّر، وغير معفاة من واجبها تجاه هذا القطاع الذي يحتضر، لأنّ احتضاره يعني انطواء صفحة مشرقة، لا بل الصفحة الأكثر إشراقاً من كيان الوطن. قلنا الكثير عن الأزمة التي عصفت بالصحافيين ومؤسّساتهم، وطاولت لقمة عيشهم، وموارد رزقهم. وإنّ القليل الذي يحتاجونه لا يوازي معشار ما هُدر، وما يمكن أن يُهدر، فلتبادر الدولة الى رعايتهم وفاء لدورهم التاريخي المشرّف، ونحن متيقّنون من تكاتف الجميع لننهض معاً إلى ورشة تعيد إلى المهنة تألقها. فالأفكار كثيرة، والفعلة ليسوا قليلين، وهم جاهزون لمواجهة التحدّي، والتصدّي للمعوقات، ويجب ألاّ يقوم بيننا أيّ تصادم. فأن ننهد إلى التكامل، يعني أن ننتصر للحريّة، ونقرّ بحق رجال الإعلام في الحياة الكريمة اللائقة التي تجعل منهم طاقة إيجابية في خدمة الوطن والمجتمع.

في اليوم العالمي لحرية الصحافة، ننحني أمام شهدائها الذين أعطوا من دون حساب، كما أمام شهدائها الأحياء الذين أفنوا زهرة العمر، وسابقوا عقارب الساعة في بذل مضن لم يحصدوا منه سوى الجحود.

في هذا اليوم المبارك، نتوجه إلى الطغاة أينما كانوا، ومهما سمت بهم الرتب، ممن اعتادوا البطش بالصحافيين، والفتك بهم، وإلقاءهم في غياهب السجون، يسومونهم أمرّ العذابات وأقساها، مذكّرينهم بقول شاعر القطرين خليل المطران:

كسّروا الأقلام هل تكسيرها يمنع الأيدي أن تنقش صخراً؟

قطّعوا الأيدي هل تقطيعها يمنع الأعين أن تنظر شذراً؟

اطفئوا الأعين هل إطفاؤها يمنع الأنفاس أن تصعد زفراً

اخمدوا الأنفاس هذا جهدكم وبه منجاتنا منكم فشكراً.

كلمة ألقيت في ندوة اليوم العالمي لحرية الصحافة التي نظمتها نقابة محرري الصحافة اللبنانية الجمعة 3 أيار 2019 وعُقدت في قاعة المحاضرات في مبنى بلدية الحازمية.

نقيب محرري الصحافة اللبنانية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى