عن حريق نوتردام في باريس

د. أنطوان شاربنتييه

في 15 أبريل/ نيسان 2019، شبّ حريق مؤسف داخل كاتدرائية نوتردام في باريس والتي تُعدّ من أهمّ المعالم التاريخية والدينية والسياحية في فرنسا خاصة وفي أوروبا عامة، ويرجع تاريخ بنائها إلى أكثر من 800 عام تقريباً. بداية، لا بدّ من الاعتراف بأنه يجب تسجيل حريق نوتردام في سياقه الطبيعي أيّ من الحوادث المؤسفة التي تهز الوجدان الإنساني، كما يجب عدم المقارنة بينه وبين الحوادث المفتعلة أو الإرهابية الأخرى، كأحداث 11 سبتمبر/ أيلول مثلاً، وذلك تجنباً للتحليل الخاطئ.

قرّاء ومحللون كثر، خصوصاً من العرب، يعتقدون أنّ الحريق كان مفتعلاً، وهم لا يؤمنون أبداً بفكرة أنّ أحداثاً من هذا النوع قد تقع في فرنسا، وكأنّ هذه الأخيرة منزّهة عن أحداث كهذه. فيما البعض منهم يرى بأنّ الحدث هو بمثابة هجمة لـ «ضرب» فرنسا، مع العلم بأنّ التحقيقات المحلية لم تظهر أيّ دليل على افتعال الحريق.

ولكن لنفترض بأنّ الحادثة متعمّدة فعلاً، فكلّ ما ستقوم به الدولة الفرنسية هو التكتم عن الموضوع لتتفادى مشاكل جمّة قد تؤدّي إلى تأجيج الصراع في الداخل الفرنسي.

على المقلب الآخر، أظهرت الحادثة مبالغة حادة على صعيد إثارة الشعور العاطفي لدى الرأي العام العالمي بسبب الضخ الإعلامي الكثيف عبر النقل المباشر، خصوصاً عند انهيار البرج، وهذا ما لم ينتبه له الرأي العام العالمي عندما احترقت كنائس وجوامع تاريخية وأثرية وسياحية مهمة في كلّ من سورية والعراق.

فلقد كان التفاعل والتضامن كبيراً ومؤثراً جداً. فكلّ ما يخصّ الغرب، وتحديداً عندما يتعلق الأمر بمكان ديني مسيحي غربي، تتأثر عقول وقلوب الناس كافة في أرجاء المعمورة. وبالتالي، يتفاعلون معه أكثر مما يتفاعلون مع ما يحصل في المشرق أو في أيّ منطقة أخرى من العالم، حيث أننا لم نر أيّ تفاعل أو تضامن للغرب عندما كانت تتعرّض الكنائس المسيحية في المشرق إلى التدمير والنهب خلال الحروب البشعة. هنا، يحق لنا أن نتساءل «هل كنيسة الحجر الغربية أهم من كنيسة البشر الشرقية؟».

على سبيل المثال، أصدر البابا فرنسيس بياناً دعم فيه الدولة والكنيسة الفرنسية، على غرار بيان مماثل أصدره الفاتيكان، ومن ثمّ رأينا كيف تحرّكت وتسابقت السلطات الكنسية، الغربية والشرقية، للإدانة والاستنكار. إذاً، فالأمر يتعلق بمقام ديني مسيحي غربي، وهذا ما لم نره طوال الحرب الهمجية على المقدسات المشرقية.

يعاني المشرق اليوم من هجمة «قذرة». ففي سورية، تدمّرت الكنائس بحجرها وبشرها، وسرقت أيقوناتها، وفي العراق فجّرت الكنائس خلال تلاوة الصلوات. أما في فلسطين، فلقد كانت نسبة المسيحيين 22 عندما نشأ الكيان الصهيوني الغاصب، والآن لا يشكلون أكثر من 1 من مجموع السكان ناهيك عن تعرّضهم لأبشع الاضطهاد يومياً حتى وصل الأمر إلى حدّ منعهم من الذهاب إلى كنيسة القيامة في القدس لأداء فريضة الاحتفال بأعياد الفصح والميلاد المجيد، ومع ذلك لم نسمع أو نقرأ أيّ بيان واضح وصريح أو أيّ تنديد أو استنكار من السلطات الكنسية الغربية، وخاصة الفاتيكان بهذا الخصوص. كذلك، يمكن الإشارة هنا أيضاً إلى التغاضي عن الاضطهاد الذي يعاني منه المسيحيون في مصر.

خرج إلى الإعلام بعض المنظرين، خصوصاً من رجال الدين المسيحي ومنهم الشرقيون، بالحديث عن «أعجوبة» أنقذت الكاتدرائية من الانهيار الكلي وعدم تضرّر مذبحها عند سقوط البرج الكبير الذي التهمته النيران، مفسّرين الأمر وكأنه إشارة أو علامة إلهية لعودة فرنسا العلمانية، والملحدة نوعاً ماً، إلى كنف الدين المسيحي متناسين جهود أكثر من 400 رجل وامرأة من قسم الإطفاء على مدار 15 ساعة لإخماد الحريق وإنقاد الكنيسة. وهنا التساؤل: أين هي الأعجوبة في عدم تحطّم المذبح وبقاء الصليب معلقاً فيما أتت النيران على معظم أجزاء الكنيسة والتهمت عدداً لا بأس به من اللوحات والتحف الفنية القديمة والثمينة؟

وهنا يجب التنويه أنه في التعليم والشرع المسيحي الكاثوليكي، لا تثبت الأعجوبة إلا في حال حصولها على اعتراف السلطات الكنسية المختصة، خاصة الفاتيكان، وذلك تبعاً لإجراءات محدّدة تبدأ من بعد تقديم ملف بالحادثة يليه تحقيق بالأمر. فكيف يحق لرجال الدين أن يعلنوا على هواهم حصول أعجوبة دون العودة إلى سلطتهم الكنسية؟ أما بالنسبة إلى بعض المتطرفين غير المسيحيين، الذين اعتبروا أنّ الله يريد ضرب «الصليبيين»، فهم أيضاً يعبّرون عن مستوى متدنّ في التفكير والثقافة ما يشوّه جوهر الديانات التي ينتمون إليها.

في الوقت نفسه الذي كانت فيه أعين العالم شاخصة إلى حريق نوتردام، نشب حريق مماثل له في المسجد الأقصى، في فلسطين المحتلة، ولكن للأسف مرّ الحدث مرور الكرام، خاصة في الشارعين العربي والإسلامي اللذين فضّلا البكاء على حجارة الغرب متناسين حجارة الشرق. ما يحزّ في النفس هو السباق المحموم بين حكومات الشرق ورجال دينه للتعاطف مع الغرب في محنه، متجاهلين التعاطف مع كوارث وقضايا الشرق خصوصاً قضية فلسطين. لا أحد ينكر على الغرب تقدّمه العلمي والحضاري، لكن الغريب هو التعلق المفرط به والخضوع الطوعي له الذي يُعدّ أحد أسباب تفتت دولنا ومجتمعاتنا.

في ما يخصّ الداخل الفرنسي، تحوّل حريق نوتردام إلى قضية سياسية بامتياز، حيث رأينا كيف ألغى الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، خطابه الذي كان مقرّراً والتوجّه لأصحاب «السترات الصفراء». ورأيناً أيضاً كيف أدلى الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بنصائحه للدولة الفرنسية في ما يخصّ استعمال طائرات الإطفاء لإخماد الحريق. في هذه النقطة تحديداً، يجب التنويه بأنّ تلك الطائرات موجودة في الجنوب الفرنسي ويتطلب وصولها إلى باريس، محمّلة ما بين ثلاثة إلى عشرة أطنان من المياه، إلى ما يقارب الساعتين، ناهيك عن أنّ تفريغ هذه الحمولة الضخمة قد تؤدّي إلى انهيار الكنيسة كلياً، وقد يعرّض المباني المجاورة لها إلى مخاطر عدة.

أخيراً، أعلن الرئيس ماكرون عزمه إعادة ترميم الكاتدرائية خلال السنوات الخمس المقبلة، لكن هذا الترميم سيكلف كثيراً سواء لجهة الوقت أو المال، على غرار كاتدرائية نوتردام في مدينة «نانت» التي احترقت في العام 1972 واستغرق ترميمها حوالي 35 سنة. ولكن لا مشكلة، فها هي التبرّعات العربية للترميم تتسارع حيث افتتح المغرب هذا الباب عبر سفيره في باريس معلناً انه «وبتعليمات من الملك محمد السادس، قرّر المغرب تقديم مساهمة مالية من أجل إعادة بناء كاتدرائية نوتردام»…

كاتب ومحلل فرنسي لبناني

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى