«أحلام الملائكة» للكاتب صلاح شعير.. نصّ راءٍ قابل للتحوير الفنّي!!

طلال مرتضى

ثمة خدر محسوس يجتاح أطراف القراءة منذ فسحتها الأولى على الرغم من أن الكاتب وبلا مقدّمات قد أمسك بقارئه من تلابيبه وجرّه نحو فعالية الحدث دون تأخير أو مماطلة، فالخدر الذي ذكرته لم يأت من فراغ أو علة ما في تركيبة النّص المكتوب بتاتاً، لكن تكاثف الأسئلة في رأسي والتي استطاعت حجري لبرهات – بعيداً عن كوة القراءة – لاستشفاف ما يحدث من باب، ما الذي يريده صلاح شعير المصري بكل تلك التفصيلات الصغيرة في منجزه «أحلام الملائكة» الذي صدر عن دار الجندي للنشر والتوزيع؟

يتبادر إلى الذهن في المطالع وكجواب أولي على سؤالي، ليست تلك المنمنمات إلا لإثقال حركة النصّ والتي كان من الممكن تجاوزها، فكثيراً لا يهتم القارئ العادي بمثل تلك التفصيلات، فهو يتابع نشوء الشخصية وحراكها على أرض الحدث، بينما بقي صلاح شعير الكاتب مصرّاً على تداولها في نصّه كإشارات، «نسوة القرية يرتدين طرحات بلون أحمر على رؤوسهن وجلاليبهن مطرزة»، والكثير.. الكثير مما يشي إلى الحياة هناك، في تلك البلدة البائسة، كملمح نقدية أولي كان تخميني المبدئي بأن كل هذه لم تكن إلا إضافات مجانية اشتغل عليها الكاتب لدعم نصّه المقروء.

ثمة أحكام مسبقة كثيراً ما يقع القارئ الناقد في لجتها قبل الإمساك بدوال النّص المقروء وإشاراته، وهذا ما يسمّى بالحكم المتسرّع والمبني على قراءة رجعيّة سالفة، وبالفعل هو ما حصل تماماً حينما تناولت منجز صلاح شعير، فالقصة مشوّقة ولا تحتمل الكثير من تلك الإضافات والرمزيّات، فالقارئ همّه الأوحد الوصول نحو سهوب القفلة ليمسك بمفاتيح الحكاية التي تملأ رأسه بنشوة القراءة.

فالمجـــاني في الروايـــة هو لزوم ما لا يلزم، كثيراً ما كنا ندسّ ككــتاب الكــثير منه في نصوصنا مــن بــاب الدعم لفكرة النصّ، وهذا ما كــان يجعلنا نتــنادد مع رهط النقــّاد الذين يحملون في رؤوسهم خــطة قيامــة النصّ الروائي.

في لحظة استرجاع بعد فسحة القراءة الماتعة، أدلي بأن نص «أحلام الملائكة لم يحمل بين طياته أي إضافات مما ذكرت أو مما نسبت من إثقالات زائدة بل وجدت بأن كل ما تركه كان موظفاً وهو جزء من كيان معمار نصّه الروائي، وبعيداً عن القصة الحدث في الرواية، تلمّست بأن صلاح شعير كان يؤثث روايته في ذهنية القارئ إلى منحيين مهمين، الأول مكان الرواية والذي دأب بكل ممكناته الكتابية على تأصيل المكان وجعله مرئياً في عيون القارئ لا مقروءا مما يجعل تحميله فنياً أمراً سهلاً، وتلك فعالية مهمة يجترعها الكاتب العليم ليرسّخ نصّه في عقل القارئ، فهو وعلى الرغم من أن الزمن قد غير ملامح القرية البائسة بحكم عجلة التطور التي تزحف بالأسود على حساب الأخضر، إلا أنه استطاع ترك ملامح البلدة القديمة في ذهني كقارئ شريك، وأشي بأن نصّه المفتوح على مصاريعه هو مرجع مهم لمن يهتمون بما نسميه «الحفاظ على التراث».

نصّ صلاح شعير هذه المرة فعل القراءة الرجعية في رأسي بشكل إيجابي هذه المرة، حيث كنت أقرأ تلك التفصيلات وذهني الباطني يستعيد الفيلم المصري الشهير «الأرض» الذي جسّد شظف العيش والقهر والتسلط في المجتمع الريفي إبان حقب الاستعمار الذي ورثنا الإقطاع وغيرهم، وأما في المنحى الثاني فهو صناعة الشخصية «المحورية» في روايته، الشخصية الرمز «نور» تلك الشخصية التي يختلف إليها الجميع ويتفق في آن واحد، الشخصية الفاعلة داخل نص شعير، فلعل قيام شخصية نور في تلك البلدة هي كرمز يخصّها وحدها، ولكن فيما لو نظرنا في المدى الأوسع، سنجد أنها موجودة على مساحة أكبر، تؤثر وتحرك..

أليس جمال عبد الناصر الرئيس هو شخصية فاعلة ومحورية في التاريخ العربي؟ تؤثر وتحرك على الرغم من اختلاف الكثيرين معه، لكنها هكذا بنيت، فقد تم الاشتغال عليها بعناية أكثر من الفائقة لتكون محرّكاً للرواية ورمزاً يعوده الناس لاستجداء به سواء اتفقوا معه أو اختلفوا وتلك هي بصمة الكاتب الناجح الذي استطاع تأصيل تلك الشخصية في رأسي كقارئ..

هذا ما للرواية وأما ما هو عليها فإن الكاتب وقع في لحظة ما في مطبّ الزمن، فالزمن في بعض أماكن الروي لم يتوافق مع مسير الحدث، وعلى سبيل المقال وكي لا أطيل في التوصيفات، عملية وصف ابن العمدة الذي ذهب لدراسة الطب في أوروبا، فنجـد أن الكاتب بقي ممسكاً بكل خيوط الحدث على الأرض لتتســاوى والزمن لكنه أفلتها من يده عند قصة الطبيب الذي – وخلال سطور قصيرة – مرر عدة سنوات لتجسّد انتــقاله من البلدة إلى أوروبا إلى أن نال شهادة الدكتوراة، كثيراً ما يقع الكتّاب في هذا المطبّ، وذلك عندما تتوسّل نصوصهم درب الخواتيم، فتجدهم يهرولون وراء الحدث فقط لتدويــنه دون حساب فعالية الزمن، وهنا لا بد من القـــول إن تكاثف الحدث في النهايات يجعل الكاتب يفكر فقط في حكاية الخاتمة وحدها، وهو ما يسرع عجلة الرواية.

فالحدث كالجبل الكثيب يتهاوى من غير دراية الكاتب عند هذه النقطة بالذات ويجر الكاتب عمداً ليكتب نهاية السطر التالي كلمة، النهاية.

كاتب عربي/ فيينا.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى