انهيارات السياسة الأميركية في «الشرق الأوسط»… تفاوض لا حرب

مهران نزار غطروف

ملاحظة وتحليل كلّ ما حدث ويحدث في الآونة الأخيرة، من سياسات وأحداث على مستوى الشرق الأوسط، بطلها بلا منازع الإدارة الأميركية الحالية، يشي بأنّ ثمة انهيارات حدثت وتحدث على مدار اللحظة في منظومة عمل هذه الإدارة!

وهي الواقعة اليوم بين خياري الفعل السياسي الممنوع من الصرف، والفعل العسكري الممنوع من النار.

فالمنطقة اليوم لم تعد كالأمس، وبات فيها ما يكفي من الكبار، لمنع صفقة الأمركة الجديدة لهذا الشرق، المترع بالصفقات.

وعلى الرغم من أنّ كلّ ما يجري، يصوّر الأمور بأنها تسير باتجاه الحرب، ولكننا نعتقد أنه من الجنون أن تكون الإدارة الأميركية تدفع بهذا الاتجاه؟

فتخسر كامل تواجدها، وتهدي شاغر هذا التواجد الكبير والممتدّ، للقطب العالمي الروسي المنافس، والصاعد بقوة، إضافة للقطب الصيني الاقتصادي العالمي الأول، ولبعض اللاعبين الإقليمين والدوليين الصاعدين بثبات، والتي تأتي إيران في طليعتهم.

قراءات وتحليلات كثيرة، فُردّت لها مساحات واسعة، وعناوين كثيرة، حول الوضع القديم – الجديد من الصراع بين واشنطن وطهران!

كان الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي الإيراني صفارة بدايته، ومحاولات منع طهران من تصدير نفطها، كانت بطاقتة الحمراء، التي ألغى ما بعدها كلّ ما قبلها!

فهكذا نوع من التطورات، أقلّ ما يمكن أن يتوقع فيه حرب لا تبقي ولا تذر، وهنا ليس تهويلاً لفكرة الحرب غير الواردة أصلاً، رغم كلّ ما قرع ويقرع لها من طبول، خاصة من الجانب «الإسرائيلي»، والذي بات يعاني من مرض مزمن يدعى تعاظم التواجد الإيراني على اختلاف مستوياته، وفي مختلف جبهات محور المقاومة الممتدة.

ولكننا هنا نقدر لجهة أنّ مثل هكذا إجراءات أميركية في حال وضعت موضع التطبيق، سوف تلغي كافة الخيارات الأخرى أمام القيادات الإيرانية، باستثناء العسكري منها، فالصراع هنا بات صراع بقاء!

ونرجح أنّ كلّ الحاصل هو مجرد تهيئة أجواء تفاوض لا أكثر، عبر الزجّ بكامل الأوراق والملفات كنوع من التحدّي بوجه محور المقاومة، من أساطيل وحصار وعقوبات وإجراءات طالت كلّ شي، حتى الحلفاء، بشكل مباشر أو غير مباشر.

ولكن، الفارق الوحيد الآن يكمن في القدرة على التحمّل والصبر، وهذا ما بات يجيده محور المقاومة وحلفاؤه بكفاءة عالية جداً.

وحقيقة الأمر، أنّ اللافت في كلّ ما جرى ولا زال، هو نقل ساحة المواجهة من الميدان السوري إلى الملعب الإيراني بهذا الشكل؟

وهذا بتقديرنا له أهميته الكبرى، لجهة خلق واشنطن وحلفائها ساحة مواجهة افتراضية جديدة، ترافق معها بروباغندا إعلامية استطاعت خلال الفترة الماضية تصدّر المشهد العالمي مجدّداً، بحجة السعي لقطع «رأس الأفعى» في محور المقاومة – أيّ إيران – على حدّ زعمهم، بعد أن اعتبروا أنهم في سورية نالوا مرادهم! وهم لم ينالوا إلا مسماراً أخيراً دق في نعش تواجدهم الشرق أوسطي، وإلى غير رجعة.

والمثير للدهشة هو كمّ السذاجة الذي يعتري هذه الإدارة الحالية أسوة بسابقاتها، حيث سياسة الهروب وتغطية الهزائم بمأزق أكبر، ليغدو تقليداً أميركياً مكشوفاً، يحفل التاريخ الأميركي بالشواهد الكثيرة منه.

فالواقع اليوم تغيّر، بفعل مخرجات ثماني سنوات من الحرب السورية، والتي يصحّ فيها كلّ أوصاف الحروب العالمية على تعقيدها وتركيبها.

وواشنطن وحلفاؤها وكلّ ما سخرته من إمكانيات قد هزمت، ولا يمكن لها نكران ذلك، مهما حاول عقلها «العميق» الهروب من هذا الواقع، عبر صناعة حروب «وهمية» جديدة، لأنه وعلى رأي المثل الشعبي «من كبّر الحجر ما ضرب»!

ولأنه وبحسب المنطق أيضاً، عندما تصل بك الحال إلى لحظة زجّ كامل ملفاتك «الشائكة والعالقة» بينك وبين أعدائك، وترمي بها كاملة على الطاولة، فللأمر تفسير واحد لا غير، أنك تقايض على خلاصك وحدك، نعم وحدك، مقابل غرق الجميع من حلفائك، وبهذا تكون أيضاً الخاسر الأكبر!

فمنذ إعلان ما بات يُعرف بـ «صفقة القرن»، وما لحقها من خطوات، سواء إعلان ترامب القدس عاصمة لإسرائيل، وإجراءات نقل السفارة، وما تلاها من قطع الدعم عن الأونروا، وصولاً لإعلان الجولان أرضاً إسرائيلية، وخروجه من الاتفاق النووي مع إيران، وصولاً لوضع الحرس الثوري الإيراني على قائمة الإرهاب، جميع هذه الملفات تدلّ على أنّ أميركا تدفع بملفات مقايضة وتفاوض ليس إلا!

فواشنطن اليوم منهارة في هذا الشرق، وهي غير قادرة على أن تهدّد أو تتوعّد إيران، ولا حتى لبنـــان على صغر حجمه، فقد هُزمــت هزيـــمة القرن، وكما كلّ من سبقها هُزمت على أبواب دمشـــق.

وخلاصة القول: إنك إذ تقاوم لمجرد فعل المقاومة، سواء مقاومة الاعتداء والاحتلال والظلم والحصار، فهذا أمر مسلّم به، إذا كنت تمتلك الكرامة أو شيئاً منها! ولكن أن تقاوم لتنتصر، حيث لا سبيل لديك إلا النصر، وأن تقاوم لتتحوّل من ردّ الفعل إلى الفعل، ومن فعل المقاومة إلى فعل فرض واقع الهزيمة المطلقة على المعتدي، فهذا هو النصر بالمقاومة، وبالكرامة، وبالمجد الذي ينحني لك، ويليق بك.

فقد ولى زمن كانت فيه واشنطن تدخل البيوت متى شاءت، وأنّى شاءت، وولى زمن أيضاً تبقى متى شاءت، وتنسحب متى شاءت.

واليوم قرار واشنطن بالمواجهة، أو البقاء، أو الرحيل، هو رهــن قــواعد اشتباك هندستها، وأسّست لها، وعـــززتها الحرب السورية، على خلفـــية ما صدّرته للعالم من صمود وشجاعة وتحالفات أصيلة، وراسخة، تصلح أنموذجا لكلّ عصر.

بمعنى آخر: سقوط كلّ مساعي واشنطن وحلفائها في المنطقة عبر محاولة تدمير المنصة السورية الإيرانية للمقاومة، وفشلها وهزيمتها.

بل الأعظم من ذلك، قدرة هذه المنصة مع حلفائها تحويل موجة التدمير الكبرى هذه باتجاه مفتعليها.

إذن هو زمن النصر، والقرار بالنصر، وهو زمن صراع الإرادات، والتي طالما كان لنا سجل حافل في هكذا نوع من الصراعات في هذا الشرق، مع ضرورة الوعي دوماً، بأنه عندما تكون الحرب مفتوحة تقاس المواجهة بالأولويات عبر المراكمة، لا بالأمنيات عبر المساومة.

إعلامي وكاتب صحافي سياسي سوري

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى