التشبيك في الوطن العربي: ضروراته وعقباته 1

زياد حافظ

إذا الشعب أراد يوما الحياة فلا بد أن يستجيب القدر

ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر

في البداية نودّ أن نشكر مؤسسة محمد عابد الجابري على الدعوة الكريمة التي وجهتها لنا للمشاركة في هذه الندوة حول «الكتلة التاريخية» التي تضمّ المكوّنات السياسية الرئيسية في الوطن العربي يتكّلم عنها بإسهاب الزملاء الأخوة الكرام المشاركون فيها.

أثرنا أن نستذكر البيتين للشاعر التونسي ابي القاسم الشابي، اللذين طالما ردّدناهما في المدارس وطالما تمّ استذكارهما في شوارع العواصم العربية المنتفضة لنؤكّد إيماننا وقناعاتنا المبنية على العلم والتاريخ والجغرافيا وعلى غريزة البقاء أن لا سبيل لهذه الأمة إلاّ بقيام دولتها القومية الوحدوية بغض النظر عن شكلها الدستوري. هذا هو منطلق مقاربتنا، فنحن من حاملي مشروع نهضة الأمة العربية بكافة مكوّناتها السياسية والثقافية الذي يعبّر عنه المشروع النهضوي العربي. فالمشروع النهضوي العربي يحمل في أهدافه الستة هدف الاستقلال الوطني والوحدة والمشاركة الشعبية والتنمية المستديمة والعدالة الاجتماعية والتجدّد الحضاري. وهذه الأهداف تتطلّب جهود جميع أبناء الأمة العربية وبالتالي تظافر القوى السياسية التي تكوّن المشهد السياسي العربي على تنوّعه الذي يثري الأمة إذا ما انكبّت الجهود على تحقيق الأهداف أو يدمّر الأمة إذا ما اختلفت وغرقت بالهويات الفرعية العبثية والقاتلة وتصارعت على السلطة. وبما أن التحدّيات التي تواجه الأمة بشكل عام وكلّ قطر بشكل خاص تحدّيات مشتركة في معظمها كمشروع التنمية والعدالة الاجتماعية والتجدّد الحضاري والاستقلال الوطني وأخيراً وليس آخراً الوحدة، فلا بدّ من تشكيل قدرة سياسية على مواجهة كلّ التحدّيات المشتركة بين الأقطار والخاصة بكلّ قطر. هذه هي أرضية طرح «الكتلة التاريخية» الذي أطلقتها أدبيات محمد عابد الجابري ومركز دراسات الوحدة العربية والمؤتمر القومي العربي والمؤتمر القومي الإسلامي.

وليست صدفة أن تكون المؤسسة الداعية لهذه الندوة حول «الكتلة التاريخية» مؤسسة تحمل اسم محمد عبد الجابري. كما انها ليست صدفة أن يكون أمينها العام الأخ العزيز الأستاذ خالد السفياني ألأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي والمنسّق الحالي للمؤتمر القومي الإسلامي والذي نحيّيه على جهوده المتعدّدة والفاعلة في مواجهة التطبيع مع الكيان الصهيوني إضافة إلى نصرة فلسطين، ومهامه الجديدة في مؤسسة محمد عابد الجابري. وأخيرا ليست صدفة أننا كمشاركين في هذه الندوة كنّا تحمّلنا سابقا المسؤولية كأمين العام للمؤتمر القومي العربي إضافة غلى العضوية في المؤتمر القومي الإسلامي وفي لجنة المتابعة بين المؤتمرين. كما أننا ما زلنا مساهمين في نشاطات مركز دراسات الوحدة العربية الذي أطلق عام 2010 في ذكرى قيام الوحدة بين سورية ومصر «المشروع النهضوي العربي»1الذي نحمله اليوم. إذن، التكلّم عن الكتلة التاريخية التي تضمّ كافة تيّارات السياسية في الأمة وفي مقدمّتها التيّار القومي العربي والتيّار الإسلامي السياسي إضافة إلى التيّار اليساري والتيّار الليبرالي هو امر طبيعي عندنا يعكس ضرورة ترسيخ تلك الفكرة ضمانة لبقاء الأمة. والكتلة التاريخي لا تلغي التباينات في الفكر إلاّ أنها تتفّق على سلّم أولويات الصراع مع العدو الصهيوني ومن يتحالف معه وضد التدخّلات الخارجية لتفتيت أمّتنا العربية. وقد نكتفي بذلك في هذه المرحلة حتى تتحرّر فلسطين أن شاء الله عن قريب. فالمسألة عندنا مسألة متى وليست مسألة إذا. فعندنا هنا مسألة وجود وليست مسألة «استراتيجية سياسية» فقط أو ترف فكري. كما أنها هي خلاصة لنقاش علمي وبالعمق أجراه مركز دراسات الوحدة العربية عام 1988 1 ضمّ مفكرّين وباحثين وناشطين من كل مكوّنات التيّارات السياسية العربية نتج عنه إيجاد المؤتمر القومي العربي 1990 وفيما بعد المؤتمر القومي الإسلامي 1994 .

لن نسترسل في مقاربة الخلفيات والأسباب لطرح فكرة «الكتلة التاريخية» فهي موضوع الندوة وسيتكلّم عنها الأخوة الزملاء. إلاّ أننا سنركّز على البعد الاقتصادي لتلك الفكرة التي تجسّدها مفاهيم عدّة أهمّها «التكامل» أو «التشبيك» أو «الانصهار» الاقتصادي كما سنوضّح الفرق بين بعض المصطلحات المذكورة. غير أن الفكرة الأساسية التي نطرحها من خلال هذه المداخلة هي أن التشبيك الاقتصادي للوصول إلى الانصهار الاقتصادي بين الدول العربية هو التجسيد العملي وليس المجرّد لواقع الكتلة التاريخية. فلا كتلة تاريخية تستطيع أن تستمر إن لم تترجم على الأرض بعامل اقتصادي يرسّخ قواعد العمل العربي المشترك في مواجهة التحدّيات المشتركة. كما أن التشبيك لن يقوم إلاّ بتوافق الكتلة التاريخية.

وهنا نشدّد أن التحدّيات المشتركة ليست فقط على الصعيد الأمة ككل بل أيضا داخل كل قطر. فمعالجة التحدّيات على صعيد الأمة يساهم في معالجة التحدّيات داخل القطر.

لكن العكس ليس بالضروري صحيحا، أي نستبعد إمكانية مواجهة التحدّيات الخاصة بكل قطر بعيدا على الأفق القومي. وأن خطر الانزلاق نحو مفهوم «القطر أولا» يؤدّي في آخر المطاف إلى طريق مسدود قطريا وقوميا ولا يخدم إلاّ الكيان الصهيوني العدو الوجودي للأمة العربية والاسلامية. واستبعاد إمكانية تحقيق تنمية قطرية خارج الإطار القومي ليس موقفا مزاجيا أو عاطفيا بل يستند إلى وقائع مادية تستدعي بحثا معمّقا ومفصّلا قد يكون خارج إطار المساحة الممكنة في هذه المداخلة. لكن سنقاربها بشكل مقتضب عندما نجيب على السؤال: لماذا التشبيك؟ غير أن الجامع المشترك الملموس لتلك «الكتلة التاريخية» هو البعد الاقتصادي الذي يساهم في تثبيت مفهومها.

فما هو ذلك «الملموس»؟ في رأينا هو التشبيك الاقتصادي، وهو شرط ضرورة لتمكين وتثبيت «الكتلة التاريخية». فإذا كانت «الكتلة التاريخية» مكوّنة من مختلف التيّارات السياسية والاجتماعية في مختلف المجتمعات العربية فإن هذه المكوّنات تتحرّك في أقطار جغرافية تتحكّم فيها المكوّنات الاقتصادية. فالشرائح الاجتماعية والسياسية مرتبطة ارتباطا عضويا بما يشكّل سبل لقمة العيش ومن بعد ذلك الأمن الغذائي ثم الاجتماعي ثم السياسي وأخيرا الثقافي. فكيف يمكن أن نتصوّر كتلة ما خارج إطار يؤمّن لها وسائل البقاء ثم الارتقاء؟ وكيف يمكن تصوّر حالة انصهار اقتصادي يبدأ بالتشبيك خارج إطار الكتلة التاريخية؟ فالكتلة التاريخية هي التي ستقوم بما يلزم لتحقيق التشبيك والانصهار الاقتصادي.

هذه الوسائل لن تتوفّر إلاّ عبر التنمية الاقتصادية، والأخيرة لن تتحقّق إلاّ عبر التشبيك بين الأقطار. فما هو إذن، التشبيك الاقتصادي ولماذا التشبيك وليس التكامل المعهود في مختلف الأدبيات الاقتصادية والسياسية؟

أولاــ في المفاهيم وتوضيح المصطلحات

ليس هدفنا هنا إجراء مقاربة للنظريات الاقتصادية حول التكامل وأو التشبيك كي لا يضيع موضوعنا الأساسي أي الكلام عن المضمون الاقتصادي للكتلة التاريخية. لكن لاحظنا أن العديد من الأدبيات السياسية والاقتصادية تتكلّم عن «التكامل» الاقتصادي دون تحديد مضمونه. فمن الناحية النظرية الاقتصادية يكون مضمون التكامل مبنيا على التخصّص حيث يصبح التنافس الطريق إلى التكامل عبر ما يُسمّى بالتفوّق النسبي لكل قطر أو بلد في إنتاج السلع والخدمات التي يمكن أن ينجزها. غير أن هذه المفاهيم إذا ما طُبّقت على أرض الواقع العربي فهذا يعني أن الأقطار العربية ستدخل في متاهات «التخصّص» و«التنافس» دون تحقيق أي تكامل. فمضمون التكامل يحمل مفهوم «سدّ النواقص» بين الأقطار وبين القطاعات وبين المهارات. لكن ما نتكلّم عنه يختلف في الهدف حيث نسعى إلى توسيع الرقعة الاقتصادية عبر توسيع الأسواق لتمكين التجارة البينية بين الدول العربية. فالنظرية الاقتصادية للتكامل الاقتصادي مبنية على فرضيات قد لا تكون منسجمة مع الواقع العربي وحتى الدولي في رأينا وبالتالي يصعب علينا القبول بنتائج وتوصيات النظرية كما هي مألوفة.

فنظرية التكامل الاقتصادي المبنية على التخصّص والتنافس شكّلت الغطاء «العلمي» للاستعمار الاقتصادي في القرن التاسع عشر أو الهيمنة الاقتصادية عبر العولمة في القرن الحادي والعشرين. والاقتصاد في رأينا ليس إلاّ السياسة ولكن بلغة الأرقام. بل نقول أكثر من ذلك، فإن النظريات الاقتصادية التي تُدرّس في الجامعات تعكس فكرا سياسيا واضحا سواء كان النموذج الليبرالي أو اليساري الماركسي. فجميع النظريات التي شكّلت قاعدة «السياسات» الاقتصادية عبّرت عن رؤية وموقف سياسي من القضايا التي تقاربها. فنظرية الريع الاقتصادي 1817 2على سبيل المثال التي أوجدها دافيد ريكاردو 1772-1823 هو لتبرير فرض الضرائب على مالكي العقارات التي ارتفعت قيمتها بشكل قياسي بسبب الحصار الاقتصادي الذي فرضه نابليون على المملكة المتحدة. ونظرية كينز 1883-1946 في الانفاق الحكومي كان للخروج من الكساد الكبير الذي عمّ العالم الغربي في الثلاثينات من القرن الماضي كما برّر برامج إعادة إعمار الدول المتضررة من الحرب العالمية الثانية كفرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا وإيطاليا. أما اليوم فالنظرية النيوليبرالية التي روّج لها فريدريتش فون هايك 1889-1992 وميلتون فريدمان 1912-2006 تبرّر ظاهرة العولمة والهيمنة الأحادية للشركات الكبرى العابرة للدول لإنهاء «التاريخ» أي السياسة التي نظّر لها الباحث فرنسيس فوكوياما2! أما تطوير نظرية الانصهار الاقتصادي فيعود إلى أعمال جاكوب فاينر 1892-1970 وبلا بلاسا 1928-1991. والنظرية تقول أن الانصهار الاقتصادي يأتي بالتدرّج عبر سبع مراحل: مساحات تجارية تفضيلية، تجارة حرّة، وحدة جمركية، سوق مشترك، وحدة اقتصادية، وحدة نقدية، انصهار كامل. التقييم السريع للتجارب العربية لتلك المراحل تفيد بأن في ظل دولة التجزئة التي فرضها المستعمر وقبلتها نخب حاكمة، فليس بإمكان تحقيق أي نجاح لأي من هذه المراحل. نشير إلى إفشال الوحدة الجمركية بين لبنان وسورية، إلى جعل مشروع السوق العربية المشتركة حبرا على ورق، إلى محدودية التنسيق الاقتصادي بين «تجمّعات» إقليمية كمجلس التعاون الخليجي، والاتحاد المغربي الخ…

أما بالنسبة للتكامل الاقتصادي المبني وفقا للنظرية الاقتصادية على التخصّص والتنافس فذلك يعود لنظرية ريكاردو3. فمبدأ «التخصّص» الذي شجّعه ريكاردو في نموذجه الاقتصادي أدّى إلى «ضرورة» تخصّص المملكة المتحدة في تصنيع الأقمشة، أي السلع الصناعية، بينما البرتغال يكتفي بإنتاج النبيذ وفقا لنظرية التفوّق النسبي للبرتغال في إنتاج النبيذ وإن كان باستطاعة البلدين إنتاج السلعتين! هذا يعني بالنسبة للغربيين أو دول «الشمال» أن تكون لها حصريا مهّمة الإنتاج الصناعي بينما دول الجنوب تنحصر مهمّتها في استخراج المواد الأوّلية دون أي تصنيع أو تحويل لتلك المواد وتكتفي بتصديرها لدول الشمال التي هي تحوّلها وتصنّعها ثم تعيد تصديرها إلى دول الجنوب. وهذا ما فعله المستعمر البريطاني في مصر عبر تفكيك مصانع القطن ورميها في جزر السيشل وفرض سياسة زراعة القطن وتصديرها إلى المملكة المتحدة. القيمة المضافة تبقى في دول الشمال بينم دول الجنوب تكتفي بقيمة مضافة متدنية غير كافية لإطلاق عملية تنمية شاملة أو حتى جزئية. فمصيره التبعية الاقتصادية الدائمة للدول الشمال أو الغرب!

استمرّ ذلك الوضع حتى بعد الحرب العالمية الثانية عندما انتفض اقتصادي من الجنوب، من الارجنتين بالتحديد، واسمه راوول بريبيش 1901-1986 حيث اعتبر أن شروط التبادل التجاري هي لمصلحة دول الشمال وليست لدول الجنوب خاصة أن أسعار السلع المصنّعة في ارتفاع وسعر المواد الخام والزراعية في هبوط3. الفجوة الاقتصادية بين دول الشمال والجنوب تتفاقم وهذا ما أكدّته أبحاث الاقتصادي الروسي الأصل فاسيلي ليونتييف. لذلك يصبح تطبيق ذلك النموذج في الدول العربية وصفة للمزيد من الانقسام والتشرذم وعدم التعاون. فمن يحدّد قطاعات التخصّص وعلى أي قاعدة؟ وهل هناك استعداد للقبول بذلك التقسيم للعمل؟ أسئلة لم تجب عليها النظرية الاقتصادية، ناهيك أن تلك النظرية مبنية على فرضيات ليست بالضرورة واقعية أو صحيحة، ولا حتى في الدول المتقدمة، وبالتالي لا نرى أي مبرّر لسلك ذلك المسار على الأقل في مرحلة بناء الاقتصاد العربي الموحّد. فمن يفرض «التخصّص» هو الأقوى فقط لا غير ومن هنا نفهم هدف النظريات والسياسات الاقتصادية في الغرب، والتي تمّ تصديرها إلى دول الجنوب بما فيها الدول العربية، فهي نظريات مغرضة تخدم فقط من يملك القوّة.

أضف إلى ذلك فإن تلك النظريات مبنية على فرضيات خاطئة وأو غير واقعية ما يجعل استنتاجاتها تتطلّب مراجعة جذرية وهذا ما لم يقم به معظم الاقتصاديين العرب6. وهذه النظريات، ومن ثمّة السياسات، مبنية على الرؤية الرأسمالية لتقسيم العمل بين الدول ما يؤسّس لهيمنة الدول المتقدّمة اقتصاديا بسبب الاستعمار أولا وأخيرا على الدول «الناشئة» وإن كانت تلك الدول من أعرق المجتمعات البشرية! ففي القرن التاسع عشر كانت الدول المستعمرة تفرض قراراتها، وفي القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين فرضت الدول الغربية قراراتها على الدول أقلّ نموّا وقدرة على المواجهة. أما اليوم فميزان القوى يتغيّر وبالتالي هناك ضرورة لمراجعة كافة المفاهيم والنظريات والسياسات الاقتصادية «الموروثة» من الحقبة الاستعمارية القديمة والجديدة.

ومفهوم التكامل مغرض حيث يعتبر أن التعاون هو فقط لسد الثغرات أو النقص بينما التعاون يجب أن يهدف إلى توسيع الرقعة الاقتصادية والأسواق لتحقيق استثمارات أكبر وكبح البطالة والاستفادة من وفورات الحجم التي تخفّض كلفة الإنتاج. لذلك نعتقد أن المصطلح الأصح هو التشبيك بشكل عام وخاصة في مجالات البنى التحتية كسكك الحديد، وأنابيب النفط والغاز والمياه، وشبكات الكهرباء، والتواصل في مرحلة أولى. والتشبيك ليس هدفا قائما بحد ذاته وإن أخذ أنجازه عقدا من الزمن أو أكثر. بل هو خطوة نحو دمج الاقتصادات المعنية في بوطقة واحدة، وهذا هو معنى مصطلح «» integration الذي تُرجم بشكل غير دقيق بمصطلح «تكامل». ومصطلح «integration» مصطلح رياضي عكسه هو «derivation» أي اشتقاق. والترجمة الأصح لمصطلح «integration» بالمعنى الرياضي هو التفاضل وليس التكامل كما هو معهود في الأدبيات الاقتصادية العربية. ومصطلح «تكامل» هو compl mentarit »» بالفرنسية أو »«complementarity باللغة الإنكليزية وليس» .«int gration لكن القصد هنا، وبغض النظر عن الاجتهادات في الترجمة، هو توحيد الاقتصادات من وحدات اقتصادية مستقلّة بل منفصلة عن بعضها البعض إلى وحدة اقتصادية تشمل كافة المكوّنات الاقتصادية في الوطن العربي. وهذا ينسجم مع تطلّعاتنا في المشروع النهضوي العربي حيث الوحدة هي أحد أهدافه إن لم يكن في رأينا الهدف الأول أو صاحب الأرجحية. وهذه الأولوية نقاش آخر خارج إطار بحثنا هنا وإن كانت الدافع الأساس لمقاربتنا.

فالتشبيك خطوة أولى لتصحيح الإرث الاستعماري. فالاقتصادات العربية بشكل عام حافظت على الإرث الاستعماري الذي حرص خلال فترة الاحتلال للأقطار العربية على منع التواصل الجغرافي بين الأقطار وداخلها. فسكك الحديد على محدودية رقعتها مثلا كانت اتجاهاها من الجنوب نحو الشمال، أي من مواقع استخراج المواد الخام إلى المرافئ للتصدير ولنقل جنود الاستعمار إلى الأماكن الاقتصادية الاستراتيجية. كانت شبكات التواصل محدودة بين مختلف المدن ومرتبطة بشكل عضوي مع الساحة الجغرافية للإنتاج والتصدير.

ما زال الوضع الاقتصادي العام في الدول العربية مبنيا على إنتاج سلعة أو سلعتين استراتيجيتين كالنفط أو الغاز أو الفوسفاط أو القطن أو الثمر، أو الاستفادة من قطاع خدماتي يطغى عليه طابع الاحتكار، أو ممر استراتيجي بحري أو برّي ينتج الريع. ولذلك ارث تاريخي يعود إلى ما قبل ظهور الإسلام حيث مصدر الثروة كان اقتناص مجهود الغير بالقوّة، فكانت ثقافة الاثراء عبر الغنيمة ومن بعد ذلك الريع، او بالتراضي فكانت التجارة. فقبيلة قريش على سبيل المثال استطاعت أن تؤمّن حمايات للقوافل في الجزيرة العربية وبالتالي أن تجني أرباحا ريعية مقابل تلك «الحمايات». والانتقال من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد إنتاجي ليس بالسهل لا على الصعيد الاقتصادي البحت ولا على الصعيد السياسي حيث الاقتصاد الإنتاجي يتطلّب نظاما سياسيا مبنيا على المسائلة والمحاسبة بينما الاقتصاد الريعي يعفي النخب الحاكمة من تلك المسائلة والمحاسبة. فالمستفيد من الريع لا يمكن أن يحاسب من يوزّع الريع طالما المستفيد لم يساهم في إنتاجه! فدور المؤسسات للدولة العربية المعاصرة هو تقاسم «الغنيمة» أو الريع وفقا لسّلم أولويات يحدّدها مركز القرار لصالح من يدور في فلكه أو يدعم بقائه.

والانتقال إلى اقتصاد إنتاجي لا يمكن في الظروف الدولية والإقليمية القائمة أن يتم ضمن الحدود السياسية للدول العربية كما ورثتاها من حقبة الاستعمار. والتجربة التاريخية لعدد من الأقطار تدلّ على ذلك مصر، الجزائر، العراق، سورية مثلا . فلا بد من رقعة اقتصادية واسعة لتبرير الاستثمار في مشاريع اقتصادية مكلفة ولكن ضرورية لتمكين البنية الاقتصادية من تنمية مستدامة. هذه هي إحدى نتائج الدروس لحقبة الدولة القطرية بعد الاستقلال الظاهري عن الاستعمار.

إذن، نعتقد أن المطلوب في هذه المرحلة التكلّم عن التشبيك الاقتصادي للوصول إلى اقتصاد موحّد على مدى ساحة الوطن العربي.

ثانيا ــ لماذا التشبيك؟

بعد هذه التوضيحات المبدئية حول المصطلحات والمفاهيم نحاول الإجابة على السؤال التالي: لماذا التشبيك؟ وكما أشرنا أعلاه فإن التشبيك من وجهة نظرنا هي الخطوة الأولى نحو توحيد الاقتصادات العربية. لقد أشرنا في عدد من الأبحاث والمداخلات أن الاقتصادات العربية تواجه طريقا مسدودا سواء بالنسبة للبنية الاقتصادية القائمة أو بالنسبة للسياسات المتبعة من قبل النخب الحاكمة. وبالتالي هناك مصلحة الأمن القومي العربي والمنافع الاقتصادية الناتجة عن التشبيك فلا بد إذن من مراجعة التوجّه الاقتصادي في البنى والسياسات نحو أفق قومي لا يلغي الخصوصيات القطرية ولا يتناقض مع مقتضيات الأمن القومي العربي الذي من شروطه الأساسية توحيد الاقتصادات. فلا أفق للاقتصاد القطري بعيدا عن التوجّه القومي. فنحن نعيش في زمن الكيانات الكبرى الناتجة في كثير من الأحيان عن تكتّلات جغرافية وسياسية واقتصادية. هذا ما أكّدته الرؤية الاستشرافية القومية التي أصدرها مركز دراسات الوحدة العربية3. وأكبر دليل على ذلك هو المأزق المستمر في الاقتصاد القطري منذ حصول الدول القطرية على استقلالها من الدول المستعمرة. فالمحاولات لبعض الأقطار لبناء اقتصاد وطني مستقل اصطدم بالمصالح الاستعمارية وامتداداتها في مختلف المجتمعات العربية. فلا تجربة مصر في الخمسينات والستينات من القرن الماضي والتي شكّلت نموذجا ما زال صالحا في رأينا بالنسبة لريادة القطاع العام مع بعض التعديلات، ولا تجربة العراق التي دمرّتها حروب أشعلها المستعمر بالتواطؤ مع بعض الدول العربية تلاها احتلال للعراق، ولا تجربة الجزائر، ولا حتى تجربة سورية استطاعت أن تتخطى المجابهة مع المستعمر القديم والجديد. ففي دولة التجزئة ضعف بنيوي بينما في الوحدة قوّة.

أضف إلى كل ذلك الأزمات المزمنة والبنيوية التي تواجه دولا عدّة كتونس والمغرب ولبنان والأردن والسودان وموريتانيا ودول القرن الإفريقي وحتى دول الخليج خير دلائل على محدودية الأفق القطري. كما ان خطة المستعمر القديم والجديد كانت تستهدف تلك الاقتصادات ومنعها من وصول إلى حدّ تستطيع أن تصون استقلالها السياسي. فسياسة الإفقار المتلازمة مع سياسة التجهيل عبر برامج تربوية غير صالحة علميا وثقافيا لزمننا هذا تهدف إلى منع الوصول إلى استقلال القرار السياسي العربي. الابتزاز الذي تمارسه بعض الدول النفطية لشراء ولاءات سياسية لا تخدم الشعوب بل مصالح خارجية هو خير مثيل على ما نقوله. ومنذ احتلال العراق يحرص المستعمر على ألاّ تنمو العلاقات الاقتصادية بين العراق ودول الجوار بما يخلق واقعا ماديا وحدويا يصعب تفكيكه إذا ما قام. فالغرب بشكل عام يعمل وينجح حتى الآن لاستدامة التخلّف والفقر في المجتمعات العربية التي تحكمها نخب لا تستطيع أو لا تريد مواجهة المستعمر القديم أو الجديد وذلك رغم وجود الثروات والإمكانيات الهائلة.

هنا لا بد لنا من التوقف والتأمل في الإجابة على سؤال محدّد: كيف يكون حال العرب لو توحدّوا بشكل عام ولو نسقّو سياساتهم الاقتصادية. نقدم هنا بعض الأرقام استخرجناها من التقرير الاقتصادي الموحد لصندوق النقد العربي والتي تجعلنا نقدّر ما هو حجم الوطن العربي وما نخسره إذا ما استمرّ الوضع القائم. فالمساحة الجغرافية للوطن العربي هي 13,3 مليون كم ما يجعله في المرتبة الثانية في العالم بعد الاتحاد الروسي. أما على صعيد السكان، فالوطن العربي يأتي في المرتبة الثالثة مع 400 مليون مواطن وراء الصين 1,3 مليار والهند 1,0 مليار . والوطن العربي يحتوي على ثروات نفطية وغازية ومائية وزراعية قد تجعله قوّة اقتصادية في العالم يُحسب لها حساب إذا ما تحقّقت الوحدة أو بالحد الأدنى التشبيك. وعلى صعيد الناتج الداخلي فهو في المرتبة السابعة مع 2,3 تريليون دولار وفقا لتقديرات التقرير الموحّد للصندوق النقد العربي الموحّد4 الذي يمكن أن يتضاعف بالتشبيك الاقتصادي وصولا إلى الوحدة أو الانصهار الاقتصادي. وإذا توحدّت الجيوش العربية من عدّة وعتاد فليس هناك من قوّة في العالم تستطيع هزم الجيش الموحّد أو حتى زعزعة استقرار الوطن العربي أو فرض إملاءات لا يقبلها العرب. فالوطن العربي يملك إذن، عناصر القوّة2 التي قد تمكّنه من أخذ مكانته في مجمع الأمم لو توحّد العرب وتأدية رسالته في إنتاج معرفة تستفيد منها شعوب العالم كما فعل أجدادنا.

من جهة أخرى عملت الدول المستعمرة القديمة والجديدة على وضع اليد على ثروات الأمة عبر تشجيع النخب الحاكمة على اتباع سياسات اقتصادية تكرّس البنية الريعية للاقتصاد العربي وتكرّس التبعية للخارج. فنظرية الانفتاح الاقتصادي تجاه الخارج عبر عنوان «استجلاب الرساميل» لتمويل التنمية القطرية التي لا يمكن للمدخرات الوطنية والعربية أن تقوم بها ادعاء باطل من قبل المؤسسات الدولية كصندوق النقد والبنك الدولي على سبيل المثال وكما تروّجه كلّيات الاقتصاد في الغرب ومن يدور في فلكها. فتمويل توسيع قناة السويس عام 2014 خير أمثولة على ذلك حيث استطاعت الحكومة المصرية تأمين تمويل بقيمة 6مليارات دولار في فترة وجيزة من المدخرات الشعبية دون اللجوء إلى المؤسسات المالية الدولية، وهذا ما أقلقها حيث استقلالية القرار الوطني مرفوضة من قبلها2! لذلك نبدي الحذر الشديد من التوجّهات الدولية والغربية فيما يتعلّق بقضايا التنمية والتمويل وخاصة تلك التي تروّج الاستدانة الخارجية ضمن صفقات لا يغيب عنها الشبهة. فأحد مظاهر تلك المحاولات وهم «الشراكة» مع كتل سياسية اقتصادية كالشراكة مع الاتحاد الأوروبي أو المشاريع المشبوهة كالشراكة المتوسطية التي تهدف إلى إدخال الكيان الصهيوني في وسط الجسم العربي أي بين دول شمال وجنوب البحر المتوسط، أو عبر «علاقات ثنائية مميّزة» مع الدول المستعمرة قديما وجديدا حيث المنافع المتبادلة تميل بشكل كاسر للدول الصناعية المتقدمة على اقتصادات الدول العربية. فهذه «الشراكة» لا يمكن أن تكون متكافئة بين أطراف اقتصادية غير متكافئة في الأصل وكل ذلك هو لتقليص أو حتى منع نمو العلاقات البينية في التجارة بين الدول العربية إلا ضمن أطر محدودة جدّا. وبالمناسبة، نشير هنا إلى الإصرار لدى المؤسسات الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي على عدم تسمية الدول العربية كمجموعة دول عربية بل كدول مجموعة شرق الأوسط وشمال إفريقيا MENA لإدخال الكيان الصهيوني ضمن المجموعة. وللأسف أصبحت بعض النخب الحاكمة في الوطن العربي تدعو إما «لتطمين» الكيان او لفتح علاقات ضد «العدو الإيراني» وتناسي أولوية القضية الفلسطينية وتتناسى حتى التعاون الاقتصادي العربي بل تفرض العقوبات على بعضها البعض!

لذلك تصبح الكتلة التاريخية لمواجهة كافة التحدّيات التي تواجه الأمة عملا وجوديا وليس مجرد توجّهات وتمنّيات. وبما أن ذلك الهدف يتطلّب مجهودا كبيرا فلا بد من تحديد مراحل لتحقيق ذلك الهدف. أولى هذه المراحل هي التشبيك. وهذا أمر طبيعي لأننا نعيش في عصر العلاقات الشبكية خاصة بعد الثورة التكنولوجية المستمرة في التواصل والمواصلات والاحتساب. فليست صدفة أن تكون الوثبة الجديدة للصين عبر إطلاق مبادرة الحزام الواحد الطريق الواحد الذي يهدف إلى ربط الصين بغرب أوروبا عبر إعادة الاعتبار لطريق الحرير. فعصرنا هو عصر الاتصال connectivit /connectivity أو حتى الاتصال الفائق hyperconnectivity وهذا ما يرعب الغرب الذي يرى حتمية خروج دول الجنوب عن سيطرته الذي مارسه خلال قرنين خاصة خلال الحقبة الاستعمارية وحتى ما بعد الحرب العالمية الثانية. فالدول المستعمرة بكسر الميم خرجت من الباب مكرهة لتعود من الشبّاك بسبب تواطؤ النخب الحاكمة في دول الجنوب التي أوجدتها.

فما هي أشكال التشبيك إذن؟ للتشبيك عدّة أوجه. الوجه الأول هو في ربط البنى التحتية للأقطار العربية كسكك الحديد وخطوط الكهرباء والمياه والنفط والغاز والطرق السريعة وطبعا المواصلات. ويواكب هذا ضمان حرّية نقل المواطنين والبضائع وإلغاء التعريفات الجمركية بين الدول العربية. الوجه الثاني هو في ربط السياسات الاقتصادية والمالية. هذا يعني اتخاذ موقف من املاءات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومصرف الاستثمار الأوروبي إضافة إلى الوكالات التابعة لدول الغرب كصندوق التعاون الفرنسي ووزارة الخزينة الأميركية إلخ. والتنسيق في السياسات النقدية والمالية ضرورة لمواكبة برامج التنمية داخل كل قطر ولتجنّب التضخم المالي والكساد الاقتصادي ولدعم العلاقات الاقتصادية العربية-العربية سواء كانت ثنائية أو جماعية. الوجه الثالث للتشبيك هو التنسيق في برنامج الأولويات في المشاريع التنموية كبرامج التعليم مثلا التي تشكّل القاعدة الاستراتيجية لبناء الأجيال الجديدة من المهارات والابداع. الوجه الرابع للتشبيك هو توحيد المواقف في السياسة الخارجية في المواقف والملفّات المشتركة. والوجه الخامس هو التنسيق في المواقف الأمنية والعسكرية. لكن ما يهمّنا في هذه المداخلة هي الأوجه الثلاثة الأولى وإن كانت لا تنفصل عن البعد السياسي المتمثل في الوجهين الأخرين. فهذه قائمة على سبيل المثال وليست حصرية، فيمكن إضافة أشكال أخرى إذا ما لزم الأمر.

أما نتائج التشبيك فهي عديدة. أولا، هناك النتائج التوظيفية المباشرة التي ستخلق فرصا للعمل وتخفّف من أعباء البطالة المتفشّية سواء كانت بطالة معلنة أو مبطّنة. والبطالة تشكّل البيئة الحاضنة للمشاريع المشبوهة التي تدمّر المجتمعات العربية كما شهدناها في العقود الماضية. كما أن التشبيك يخلق دينامية عمل مشترك ليست موجودة حتى الآن أو إن وجد ذلك العمل فهو محدود الفعّالية. نتيجة ثالثة هي دعم سياسات إعادة الاعتبار إلى المناطق الريفية والتخفيف من الضغط السكّاني على المدن. أضف إلى ذلك فالتشبيك يدعم مقاومة التصحّر لمناطق ريفية يمكن استصلاحها واستخدامها. هذه بعض نتائج التشبيك التي يمكن تعدادها في كل مشروع يُطرح ويُنفّذ.

ما لفت نظرنا ونحن في إطار إعداد هذه المداخلة شحّ الدراسات والمعلومات حول التنسيق العربي وكأنها من المحرّمات. فمن يحاول البحث عبر المحرّك البحثي غوغل سواء في اللغة العربية أو الإنكليزية أو الفرنسية يلاحظ مثلا تغييب أعمال لبيب شقير حول تجربة الوحدة العربية. محرّكات بحثية أخرى كبين مثلا تعرضه ولكن عدد الأبحاث المنشورة محدود جدا. العبرة هنا أنه يبدو من غير المستحّب إن لم نقل من الممنوعات أو المحرّمات الكلام حول الوحدة الاقتصادية أو التنسيق أو التعاون العربي الجدّي، فتكتفي النخب الحاكمة بالقرارات الفضفاضة الانشائية دون تنفيذ فعلي. ويعود هنا الفضل لمركز دراسات الوحدة العربية في التمسّك في هذا الملف أولا عبر هدف المركز وثانيا عبر نشر الدراسات حول التجارب الوحدوية بما فيها دراسة الدكتور لبيب شقير 1926-1986 وإن كنّا نتمنّى المزيد منها5.

هوامش

1 – مركز دراسات الوحدة العربية، المشروع النهضوي العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2010.

2 – مركز دراسات الوحدة العربية، مستقبل الأمة العربية: التحدّيات …. والخيارات، التقرير النهائي لمشروع استشراف مستقبل الوطن العربي، تحت إشراف الدكتور خير الدين حسيب ومشاركة الدكتور سعد الدين إبراهيم، الدكتور إبراهيم سعد الدين، الدكتور علي نصّار، والدكتور علي الدين هلال، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1988.

3 – David Ricardo, Principles of Political Economy and Taxation. www.doverpublications

4 – Francis Fukuyama, The End of History and the Last Man, New York, Avon Books, 1993.

5 – ريكاردو، المرجع السابق.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى