حينما تصبح النفايات مرآة لثقافة المجتمع وتمدّنه

د. نضير الخزرجي

من عادتي عند السفر والترحال على قلّته وتنقلي في المطارات وعموم المنافذ الحدودية أن أتجول في الأروقة وألقي النظرات هنا وهناك، وأتطلّع في جمالية المنفذ الحدودي وكيفية تعاطي الموظفين والعاملين مع المسافرين ونوعية الخدمات المتوفرة وبخاصة ما يتعلق بالنظافة، لاعتقادي أن نظافة المنافذ الحدودية هي مرآة للبلد وسلامة شوارعه وأزقته ورقي شعبه ومجتمعه، لأن النظيف في المرافق الحكومية ذات الاتصال بالناس هو نظيف في مسكنه ومحل عمله وفي الشارع والزقاق، باعتبار أن النظافة طبيعة وسلوك وليست تطبّعاً وتصنّعاً.

وكما أنَّ المنافذ الحدودية علامة مميزة على نوعية السلطة الحاكمة واهتمامها بالمرافق العامة، فإن شوارع البلد وأزقته علامة مميزة على طبيعة المجتمع وتعامله مع مرافق البلد الخاصة والعامة، باعتبار النظافة ثقافة. ولهذا فإن المسافر الذي يتنقل في البلدان له أن يحكم على ثقافة هذا الشعب أو ذاك من خلال ما يراه وما يلمسه في الشوارع والأرصفة.

كما أن النظافة وحدها لا تكفي، حيث يصاحبها فنّ طريقة التخلّص من النفايات أو إعادة تدويرها وتكريرها والاستفادة منها. فالحكومة التي هي نتاج المجتمع والمولودة من رحمه تقع عليها عبء التخلص من النفايات بطريقة ذكية للتقليل من الخسائر في الإنسان والحيوان والنبات والبيئة والتربة والمياه. والعملية تشاركية تضامنية بين الحكومة كشخصية اعتبارية والمجتمع كشخصية حقيقية. في بعض الدول يتم بيع النفايات إلى بلدان أخرى، كما وضعت الحكومة في كل بلدة مجموعة مكبات عامة للنفايات تستقبل مخلّفات البناء والأجهزة الكهربائية وأثاث المنازل والحدائق، أي أن المواطن لا يجد صعوبة في التخلص من النفايات الخفيفة والثقيلة، وبالطبع ليست النظافة في مثل هذه البلدان مجاناً وإنما كل منزل يدفع ضريبة شهرية على النظافة والتخلّص من النفايات. وبهذا فإن المشاركة بين المواطن والبلدية ساهمت بشكل كبير وتساهم في تنقية البيئة من مخلّفات النفايات.

وحيث تصطف في واجهة كل بيت ثلاث حاوية ورابعة داخل المطبخ، لا يتورع البعض من ضعاف النفوس في بعض البلدان من الإستيلاء على الحاويات الموضوعة في الأزقة والشوارع العامة واستعمالها لأغراض خاصة، وقد رأيت بالقرب من أحد المراقد المقدسة حاويات الزبالة وقد أقفل عليها بسلسة حديدية خشيّة السرقة، ومن المؤسف أن تجد في بلد يدعو دينه القويم إلى النظافة ويجعلها علامة وماركة الإيمان، أن يرمي بعض أهلها النفايات في الشارع أو في البالوعات أو في الأنهر، أو أن يقدم الرعاة الباحثون عن طعام مجاني لأغنامهم، أو الباحثون عن قطع البلاستيك وقناني المشروعات الغازية الفلزية إلى تفريغ الحاويات ورميها في الشارع وهي تنشر سمومها فتكون مذودًا للحيوانات السائبة وبيئة خصبة للأمراض المعدية.

صورتان متقابلتان تعكسان ثقافة المجتمع وتعاطيه مع النفايات.. يتابع مسائلها الشرعية الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي في كتيب «شريعة النفايات» الصادر حديثاً 2019 في بيروت عن «بيت العلم للنابهين» في 40 صفحة استوعبت 75 مسألة بضميمة 20 تعليقة لآية الله الشيخ حسن رضا الغديري، مع مقدمة للناشر وأخرى للمعلق إلى جانب ما مهّد له الفقيه الكرباسي من رؤية حول النفايات والتخلص منها بطريقة سليمة ومفيدة.

الصحة والسلامة أولاً

النفايات كما نقرأ ما كتبه الفقيه الكرباسي في التمهيد هي: «جمع النفاية، وهي الأمور التي يبعدها الإنسان عن حياته لضررها، يقال نفاءُ الشي ونفايته هو ما نفيتَ منه لرداءته.. والنفاية في المصطلح الخاص هو كل شيء لا قيمة له ولا يصلح بقاؤه بقرب الإنسان، حيث فقد أهليته للاستخدام والتداول بل وحتى اقتناؤه»، فخلاصة الأمر أن بقاء النفايات في الدار أو في الشارع أو في العراء مهلكة للبيئة والجماد والنبات والحيوان فضلاً عن الإنسان الذي هو الفاعل الرئيسي لحصول النفاية وتراكمها. وهو صاحب العقل الذي استفاد من البيئة في صناعة ما ينفعه في حياته، ومن الطبيعي أن تترك الصناعات نفايات ومخلفات غير ذات قيمة أو مضرة، وكما استعمل عقله في الصنع والخلق عليه أن يستعمل عقله في التخلص من المخلفات أو تدويرها لحماية البيئة وتلافي أضرار الإسراف والتبذير.

وليس الحفاظ على البيئة أمراً سلطوياً أو حكومياً، إنما هو أمر مولوي كينوني تدركه الفطرة الإنسانية السليمة، بل إن الإبقاء على النفايات دون التخلص منها وتعريض النفس والمجتمع للخطر، وليس من العقل أن يلقي المرء بنفسه إلى جحيم التلوّث والأمراض المعدية والسارية، من هنا كما يفيدنا الفقيه الكرباسي: «الحفاظ على البيئة واجب شرعي على كل مَن يعيش أو يمرّ ببلد، ولا اختصاص له بالمواطن بل وبالمقيمين والمسافرين في أي بقعة كانت»، وإذا كان الوجوب متحققاً في كل ذي نفس عاقلة مدركة أهمية صيانة النفس والمجتمع والبيئة من النفايات فإنه: «لا يجوز وضع النفايات في موضع يوجب الضرر للمارة أو في أماكن عامة بحيث يتضرّر منها الناس، كما لا يجوز رميها في ملك الآخرين».

ماركة حضارية

ومن العلامات الفارقة على احترام المواطن للبلد وبيئته واحترامه لنفسه وللقانون هو اتباع تعاليم السلطات المحلية التي تنظر إلى المصلحة العامة وسلامة البيئة، ولهذا: «إذا وضعت السلطات الصحية بعض القوانين للمحافظة على سلامة الناس من النفايات فلا بد من الالتزام بها». فالمواطنة الصالحة تبدأ من الذات وتتمظهر في الخارج عبر اتباع النظم والتعاليم والوصايا الموضوعة التي تصالح عليها المجتمع عبر مؤسساته المختلفة ذات الشأن، ولهذا إذا وضعت السلطة المحلية على سبيل المثال مجموعة حاويات وعلّمتها بعلامات تشير إلى نوع النفاية المطلوب وضعها فيه أو عبر حاويات ملوّنة يشير كل لون إلى نوع النفاية والزبالة، يفترض حينئذ اتباع التعاليم وحطّ الزبالة في موضعها، من هنا يضيف الفقيه الكرباسي: «إذا فرضت الدولة فصل النفايات وتعريبها لأجل المحافظة على البيئة وإعادة تأهيلها، وجب على المواطن العمل حسب تلك القوانين، ولا يجوز تجاوزها عمدًا».

إنَّ الرؤية الفقهية الناضجة التي نلمسها في «شريعة النفايات» وفي غيرها من سلسلة الشريعة التي بلغت ألف عنوان يدبج مسائلها وأحكامها الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي تعكس واقعية الإسلام الذي وضع القواعد والأصول لكل منحى من مناحي الحياة وواقعية الفقيه العامل الذي يتابع مستجدّات الحياة فيعمد إلى استنباط الأحكام الفرعيّة من تلك الأصول وعدم ترك الأمة هملاً.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى