اكتشاف لوحات ونقوش أثريّة ورسوم جداريّة تعود إلى ما قبل الميلاد في مواقع أثريّة سورية… انعكاس للماضي لترجمة الحاضر والمستقبل

عماد الدغلي

التاريخ مرآة الأمم وذاكرتها الحيّة وأداة اعتزازها وفخرها ومقياس حضارتها وتقدّمها يعكس ماضيها ويترجم حاضرها وتستلهم من خلاله مستقبلها ولكل أمة تراث ثقافي أثري يتغنّى به شعبها ويفتخر بامتلاكه له وتشكّل مفرداته من لقى أثرية وعناصر معماريّة وفنية ونقوش كتابية وأدوات توثيق تاريخه وهويته الحضارية.

المؤرخ الدكتور محمود السيد خبير الآثار وقارئ النقوش القديمة في المديرية العامة للآثار والمتاحف أكد أن التراث الثقافي الأثري السوري يعدّ أحد أهم المصادر العالمية المعتمدة في تأريخ الحدث وتدوين أحداث الماضي وفهم المراحل التي مرّ بها تطور الحضارة الإنسانية.

وأشار السيد إلى أن أهمية التراث الثقافي الأثري السوري عالمياً لا تُقاس فقط بقيمته التاريخية والأثرية وتنوّعه واحتوائه على المئات من القطع الأثرية النادرة بل تقاس بتوثيقه أيضاً بعض الأحداث المذكورة في القرآن الكريم والإنجيل والتوراة.

ووفق السيد فإن المكتشفات الأثريّة تؤكد أن سورية هي موطن أقدم الديانات في العالم فقد اكتشف في موقع تل الجرف الأحمر أقدم نحت في العالم يصوّر مشهد إنسان في وضع تعبّد وممارسة طقوس وشعائر روحانية، وحفر المشهد على بلاطة حجرية تبلغ أبعادها 185 و60 سم وسماكتها 14 سم وتؤرخ في العصر الحجري الحديث بالألف العاشر ق.م والقطعة الأثرية محفوظة حالياً في متحف دير الزور.

وأوضح المؤرّخ أنه في موقع تل بقرص الأثري اكتشفت دمية بشرية كبيرة تؤرخ بـ7000 عام ق.م، نحتت من قطعة عظمية طويلة ويداها مرفوعتان وحفرت عليها مجموعات من الحزوز المتوازية تمثل أجزاء قطعة ثياب واليدان المرفوعتان ترمزان إلى وضعية التعبد والدمية محفوظة أيضاً في متحف دير الزور وأنه في مملكة أوغاريت اكتشف نصّ أسطوري يمثّل أقدم النصوص المكتشفة في العالم ويشير إلى ممارسة طقوس وشعائر دينية تعبدية طلباً للاستسقاء.

وفي موقع رأس شمرة اكتُشف نصّ مسماري يتحدث عن منافسة جميع الآلهة الرئيسة والثانوية في أداء العبادة بصدق طلباً للاستسقاء بعد تأخر هطول المطر.

وأشار السيد إلى أن سورية تفتخر عالمياً بامتلاكها أقدم رسوم جدارية في العالم تصوّر أنبياء وتوثّق بعض الأحداث المذكورة في الكتب المقدسة. اكتشفت في موقع دورا أوروبوس في منطقة الفرات الأوسط جنوب شرق سورية. ويعتبر هذا الموقع بما يحتويه من رسوم جدارية واحداً من أهم المواقع الأثرية الرومانية في العالم.

وتؤرخ وفق السيد معظم الرسوم المحفوظة حالياً في متحف دمشق الوطني وفقاً للنصّ الآرامي التذكاري المنقوش باللون الأسود على بعض بلاطات السقف في قاعة دورا أوروبوس للسنة الثانية من حكم فيليب يوليوس قيصر حوالي عام 556 وفقاً للتقويم السلوقي أي 244-245 وفقا للتقويم الميلادي.

وبيّن خبير الآثار أن لوحات دورا أوروبوس تتميز بالوصف الواقعي فقد حرص من خلالها الفنان على تجسيد السحنة البشرية وملامحها المختلفة باختلاف الأشخاص وحالاتهم النفسية وعلامات الشباب أو التقدم بالسنّ ببساطة ودقة بهدف إقناع المشاهد والتأكيد على أهمية الأحداث المصورة في الرسوم. والرسوم توثّق مشاهد دينية مذكورة في الكتب السماوية أهمها رسم جداري يصور مشهد رؤية إبراهيم عليه السلام في منامه «أنَّ الله تعالى يأمره بذبح ولده إسماعيل»، والموضوع مذكور في القرآن الكريم في سورة «الصافات».

ولفت السيد إلى وجود رسم مؤرخ في الفترة الواقعة بين 244-245م يصوّر ابنة فرعون مصر محاطة بالخادمات تلتقط النبي موسى من سلة أو ما يشبه الصندوق العائم في مجرى النهر كانت أم النبي موسى قد صنعته ثم وضعت في داخله موسى وألقته في اليم خوفاً عليه من فرعون مصر ومشهداً تظهر فيه ابنة فرعون مرة أخرى تستعطف فرعون مصر في عدم قتل الطفل موسى وإعطائها إياه.

وقال السيد: اكتشف في الموقع نفسه رسم جداري آخر وهو أكبر رسم جداري في قاعة «دورا أوربوس» في متحف دمشق الوطني يصوّر مشهد مغادرة موسى وقومه من مصر ومطاردة جيش فرعون لهم ومشاهدة فرعون طريقاً يابساً في البحر يشقّه نصفين وأمره جيشه بالتقدّم وغرق هذا الجيش في مياه البحر الأحمر ونجاة موسى ومن معه ويمكن تأريخ الرسم في الفترة الواقعة بين 244-256م.

ومن الرسوم المكتشفة في دورا أوروبوس لوحة تصور آدم وحواء وأخرى تصور النبي داوود وجالوت، كذلك اكتشفت في دورا أوروبوس قطعة من مخطوط مدونة باللغة اليونانية بخط القديس تيتانوس السوري، مؤسس فرقة المتزهِّدين وهي واحدة من سبع مذاهب نسكية مسيحية وكان قد تُرجِم إلى لغات عدة منها اللاتينية والأرمنية والعربية وهو المخطوط الوحيد المتبقي من كتابات تيتانوس التي فُقِدَت جميعاً.

وخلص المؤرخ إلى أنه مما سبق ذكره يؤكد أن سورية موطن الأنبياء والقديسين ومهد الرسالات السماوية والتسامح الديني وأهم المراكز الحضارية التي وثقت ولادة وتطور فنّ الرسم الجداري العالمي.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى