الشّعريّة نقيض التّكرار

لارا ملّاك

تنوّعت الرّؤى الّتي حاولت فهم كنه الشّعريّة، كمفهومٍ واضحٍ متّفقٍ عليه. وفي الواقع، لم يتوصّل نقّادنا إلى هذا التّعريف الشّافي الّذي يجعل دارس الشّعر، أو ناقده يركن إلى حقيقةٍ واحدةٍ أو يستكين فيها. فقد عرّف نقّادٌ ولغويّون الشّعر على أنّه الكلام المقفّى الموزون، والنّثر على أنّه الكلام غير المقفّى. ممّا خلق إشكاليّةً واضحةً في تصنيف النّصوص، فهل كلُّ كلامٍ يلتزم بنظام الإيقاع الخليليّ، شعرٌ؟ وهل أيّ كلامٍ ننطق به ويخرج عن هذا الإيقاع هو نثر؟

تناول طه حسين على سبيل المثال، هذه القضيّة مؤكّدًا أنّ هذا التّصنيف لا يفي النّصوص حقّها، فالشّعريّة لا تقتصر على الالتزام بالقانون الإيقاعيّ. ولا بدّ من موافقة حسين رأيه، فالشّعريّة، في رأيي، هي الأساليب الجماليّة الّتي تنقل النّصّ من فئة الكلام العاديّ الّذي لا يحقّق إلّا غاية التّواصل بين الأفراد، إلى نصٍّ بوظيفةٍ جماليّةٍ زاخرةٍ بالرّبط الجديد بين الألفاظ، وبينها وبين المعاني. وهذا يعني أنّ الكلام وإن كان مقفًّى، قد لا تكتمل فيه عناصر الشّعريّة.

وما يعنيني أكثر في هذه المقالة، الحديث عن الشّعريّة كمفهومٍ متبدّلٍ لا يعرف ملامح نهائيّةً ثابتة. ولإثبات هذا الرّأي، يكفي أن نعرض أسبابه، حتّى نرى أنّ أسباب التّبدّل في هذا المفهوم تعني حكمًا أنّه متبدّلٌ لا محالة.

أوّلًا، تغيّر الأساليب الشّعريّة يأتي بهدف تقديم ما هو جديد. فلا يُخفى على أحد أنّ غاية الشّعر إحداث الدّهشة الفنّيّة لدى المتلقّي، ولا تحدث الدّهشة هذه، إلّا عند تنبّه العقل لفكرةٍ جديدةٍ أو صورةٍ جديدة لم يعرفها سابقًا، فكلّ مكرَّرٍ يتلقّاه الإنسان لا يلقى الاستجابة الأولى نفسها في عقله وفكره، لهذا كانت الجِدّة شرطًا من شروط جماليّة القصيدة. وبذلك، إنّ التّغيير الأسلوبيّ واجبٌ على الشّاعر، بل إنّ أصل موهبته ومنبعها، قدرته على الإتيان بجديد. من هنا، تتغيّر أوجه الشّعريّة وطبيعتها في كلّ تجربةٍ شعريّةٍ وعلى مرّ العصور. وقد تنبّه إلى ذلك أرسطو منذ زمنٍ غابرٍ في كتابه «فنّ الشّعر»، حيث أكّد على أنّ كلّ تكرارٍ في القصيدة ليس ابتذالًا فحسب، إنّما هو ركاكة، فالأسلوب المكرّر من غير الممكن أن يتميّز بشروط البلاغة والفصاحة والجزالة، أي أنّ المكرَّر تنتفي فيه الشّعريّة، ويدخل في خانة الكلام العاديّ الّذي لا يؤدّي أيّ دورٍ جماليّ.

ثانيًا، الأسلوبيّة الشّعريّة تتباين باختلاف المكان. ويعني ذلك أنّ شروط الشّعريّة ليست هي نفسها لدى الشّعوب جميعها، ولدى الثّقافات المختلفة. وقد تحدّث ابن سينا عن هذا الاختلاف، حيث أكّد على تغيّر الإيقاع وتغيّر التّركيب الشّعريّ، بين مكانٍ ومكان، وذلك بفعل الاختلاف الحضاريّ الّذي ينعكس اختلافًا في السّياق الشّعريّ. وقد يعود ذلك إلى الاختلاف في اللّغة، فكلّ لغةٍ لها ميّزاتها وخصائصها، والتّعبير الإبداعيّ في الشّعر يفيد من هذه الخصائص ويوظّفها. غير أنّ الاختلاف في الشّعريّة، بفعل اختلاف المكان قد يظهر ضمن اللّغة نفسها. والدّليل على ذلك، الخصوصيّة الّتي عرفها الشّعر العربيّ الأندلسيّ، الّتي ميّزته من الشّعر العربيّ الّذي كُتب باللّغة عينها، ولكن في إطارٍ ثقافيٍّ مغاير.

ثالثًا، الأسلوبيّة الشّعريّة تتباين باختلاف الزّمان. والمقصود من ذلك، أنّ النّصّ يتبدّل مع مرور الزّمن. وقد رصد دارسو تطوّر النّصّ الشّعريّ حركة التّغيير، ومنهم شوقي ضيف الّذي توصّل في كتابه «الشّعر وطوابعه الشّعبيّة على مرّ العصور» إلى الإقرار بأنّ أساليب الشّعر تطوّرت تطوّرًا واسعًا مع مرور الزّمن. ويعود ذلك إلى تطوّر الحضارة المستمرّ، وأكان هذا التّطوّر سلبيًّا أو إيجابيًّا لا بدّ أن نراه في نصّ الشّاعر. وقد مثّل عليه أيضًا طه حسين، حين أشار إلى الاختلاف بين شخصيّة الشّاعر قبل الإسلام وبين شخصيّته بعد احتكاك العرب بالشّعوب وانفتاحهم على العلوم والفلسفات. فقبل هذا الانفتاح كان الشّاعر يقول الشّعر بطبعه فقط، وذلك لأنّ النّاس كانوا يندفعون بحكم العاطفة والشّعور والقبليّة بينما في القرن الأوّل بعد الإسلام، اندفع الشّاعر بطبعه مع ثقافةٍ سطحيّةٍ غير فاعلةٍ. ثمّ بعد انقضاء هذا القرن تعمّق في الثّقافة أكثر، وصار على الشّاعر أن يكون مفكّرًا قبل أن يكتب. قد نوافق على هذا الطّرح وقد لا نوافق، لكنّنا في الحالتين، لا نستطيع إنكار تأثّر الشّعر بطبيعة المجتمع، والتّغيّرات الّتي تصيبه لأسباب شتّى.

رابعًا، يتغيّر الشّعر بتغيّر الحاجة إليه وبتغيّر وظيفته. فحين تتبدّل وظيفة الشّعر ضمن المجتمع، يتبدّل مضمونه، وبما أنّ الشّكل مطابقٌ دائمًا للمضمون، ينسحب التّبدّل عليه أيضًا. وهذا ما قاله أدونيس في «الثابت والمتحوّل»، حيث لا يفصل بين النّصّ على مستوى الشّكل وعلى مستوى المحتوى، لأنّهما كلٌّ متكامل، ولا تتحقّق الشّعريّة إلّا بهما معًا.

إنّ ما أرودتُه، إضافةً إلى كونه يشير إلى بعض أسباب تبدّل الأساليب الشّعريّة، هو أيضًا أدلّةٌ على هذه الحركة المستمرّة في التّعبير الفنيّ. فلا يُخفى على أحد، أنّ الجدّة شرطٌ أوّل في النّصّ الشّعريّ، كما لا يُخفى أنّ أساليب التّعبير في النّصّ، اختلفت بين مكانٍ ومكان، حيث اختلفت دائمًا ملامح الجماليّة بين آداب الشّعوب، كما اختلفت ملامح الأدب الواحد، بفعل مرور الزّمن. إضافةً إلى كون تبدّل وظيفة الشّعر بين الزّمان القديم، وبين الزّمن اللّاحق هو ما جعل الشّعر يمرّ بأطوارٍ من التّغيّرات.

بناءً على ما سبق، الشّعريّة حركة تغييرٍ مستمرّةٌ لا تحتمل التّكرار، بل أثبتت أنّها نقيضٌ له، ووجود أيٍّ منهما يعني انتفاء وجود الآخر. ولا يعني هذا إنكار القديم بالمطلق، بل إنكاره خارج زمنه، لأنّه لم يعد يلبّي حاجة شعبنا، كما لم يعُد يقدّم جديدًا من حيث الفنّيّة.

وأعتقد أنّ حركة الأدب الوجيز اليوم، هي حالة رصدٍ لشعريّةٍ جديدةٍ. إنّها شعريّة عصرنا وثقافتنا ومجتمعنا القائمة على الإيجاز وعلى تكثيف الصّورة الشعريّة. وأعني تحديدًا هنا ضمن الأدب الوجيز، شعر الومضة. فالومضة شعرٌ جديدٌ يطرح رؤًى معاصرة، بصياغةٍ جديدةٍ تخرج عن المألوف، من دون أن تنقطع عن الماضي وعن التّراث. والإيجاز شرطٌ من شروط البلاغة لدى العرب منذ القديم، وتكريسه اليوم في جنسٍ أدبيٍّ مستقلٍّ يعيد للّغة بلاغتها، شرط أن تكون الكتابة الوجيزة مكثّفةً زاخرةً بالمعاني والعاطفة والجماليّة، تخاطب الفكر والشّعور معًا، وإلّا كان النّصّ أجوف لا قيمة له.

ويحاول ملتقى الأدب الوجيز، انطلاقًا من إيمان أعضائه كافّة بدور النّقد في بناء النّصّ الشّعريّ، أن يرصد الحالة الشّعريّة الجديدة المتمثّلة بشعر الومضة، في محاولةٍ لتحديد تعريفاته وملامحه وأصوله، وهو ما ينطبق أيضًا على القصّة القصيرة جدًّا. وعلى هذا الأساس، سيعقد المتلقى مؤتمره التأسيسيّ في بيروت في 20 و 21 حزيران الحاليّ، حيث سيلتقي أكاديميّون ونقّادٌ من المشرق والمغرب العربيّين بهدف تأصيل هذين الجنسين الأدبيّين الجديدين. علّ هذه الخطوة تأتي في سبيل إعادة الحياة للنّصّ العربيّ وللنّقد، لأنّ التّكرار الّذي نقبع فيه، حتمًا لم يعد يجدي.

عضو في ملتقى الأدب الوجيز.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى