هل بدأت المرحلة الروسيّة في سياسة لبنان؟

د. وفيق إبراهيم

تتوالى محاولات روسية متكرّرة لدخول الميدان اللبنانية من بوابة عروض السلاح حيناً والتأسيس لمشروع عودة النازحين السوريين الى بلادهم حيناً آخر.

وترفع في مرات ثالثة ورابعة شعار الاهتمام للمشاركة في مؤتمرات استانة الخاصة بالأزمة السورية بخلفية تقاطعاتها العميقة بها.

لكن المبرّرات الأولى المسهّلة لدور روسي كبير في بلاد الأرز، هي لبنانية أولاً، فاستقراره الداخلي، يفرض عليه الوقاية من الصراعات الإقليمية بسندٍ دولي وازن وصاعد في المنطقة.

وهذا ما لا ينطبق على الأمّ الحنون فرنسا، التي تراجع نفوذها منحسراً إلى الميدان الفرنسي الأوروبي، وبصعوبة. كما انّ الأميركيين ينتقلون من خيبة أمل الى أخرى مسجلين انحيازاً لم يعد محتملاً الى جانب سياسات القضم والعدوان الإسرائيليين.

هذا ما يدفع بمعظم الفئات السياسية اللبنانية للبحث عن نقاط مشتركة واهتمامات تجذب موسكو الى بيروت.

هناك ميل إضافي نحو روسيا وهوائها لا تهتمّ بالبناء داخل المذاهب والطوائف كحال قوى الإقليم. ولا تستغلّ المذهبية والطائفية لتوسيع نفوذها، الأمر الذي يتيح لها نسج علاقات مع كامل المذاهب اللبنانية من دون استثناء، وقد لا تنسى علاقات سلفها السوفياتي بالأحزاب الوطنية والقومية فتشملها بعناية محدودة لا تسبّب لها ضرراً من الطوائف.

روسيا، إذاً على مشارف اقتحام المشهد اللبناني، تسهيلات لبنانية ـ سورية وامتعاض أميركي أوروبي فماذا تريد منه؟

يعتبر الروس أنّ الاستقرار السوري يبتدئ من لبنان الذي تعمل فيه كلّ القوى الداخلية المحسوبة على محاور الصراع في الإقليم من السعودية الى إيران فتركيا، بالإضافة إلى نحو مليون وخمسمئة الف سوري معظمهم من النازحين، يتحوّلون أوراقاً للاستخدام في التجاذب الداخلي.

لذلك، فإنّ العنوان الأول «الشرعي» للزحف الروسي الى لبنان يحمل مشروعاً كبيراً لإعادة «الممكن» من النازحين السوريين الى بلدهم، وهذا برنامج عمل ينال تأييد معظم القوى السياسية الداخلية حتى التي تعلن عكس ذلك بضغط إقليمي ـ دولي.

وهذا يؤسّس لدور رسمي لعهد الرئيس ميشال عون في التفاوض مع سورية ورعاية الروسي وفي مفاوضات أستانة فتسقط بعض الاحتجاجات الداخلية التي تعترض على أيّ علاقات مع الدولة السورية بضغط من تغطياتها السعودية الخليجية الأميركية، فيأتي أستانة بديلاً نوعياً يفتتح للبنان الطريق الى سورية عبر النازحين والتعاون الاقتصادي بالحدود المتجاورة، ما يؤدي الى تكامل تدريجي وبأبعاد اقتصادية بإمكانه الزحف نحو التقاطعات السياسية المقبلة، فالاقتصاد والسياسة وجهان لعملة واحدة.

ما يشجّع الروس على تدشين آلية روسية سورية لبنانية لبناء معادلة اقتصادية وازنة، على قاعدة سياسات معتدلة.

هذا على المستوى التبريري بيد أنّ موسكو ترى في لبنان معرّضاً لكلّ أزمات المنطقة، وأوّلها بالطبع الأزمة السورية والقضية الفلسطينية التي يشكل لبنان واحداً من أكثر دول الإقليم تأثراً لوجود نحو ثلاثة أرباع المليون فلسطيني على أراضيه، ينضوون في إطار التنظيمات الفلسطينية الفاعلة في فلسطين المحتلة وخارجها.

كما يحتوي لبنان على أكراد ملتزمين بقضاياهم في تركيا وسورية والعراق وإيران، وأرمن مناوئين للأتراك ومتعاطفين مع بلدهم الأمّ أرمينيا.

تكفي هنا الإشارة الى وجود حزب الله اللبناني قوة حليفة لإيران في «العالم» وصاحب الأدوار المباشرة في لبنان وسورية، وصاحب التأثير الثقافي والسياسي في اليمن والعراق ومعظم الشيعة في العالمين العربي والإسلامي.

كذلك بالنسبة الى المسيحيين اللبنانيين الوحيدين من نوعهم الذين يؤدّون دوراً سياسياً في العالم العربي والاسلامي.

هذا بالإضافة الى الإرهاب المنتشر في أكثر من منطقة لبنانية ولديه بيئته الحاضنة، إلى جانب الأخوان المسلمين الموالين لتركيا والقوى السنية الموالية للسعودية. ما يجعل لبنان مستوعباً لكلّ أزمات المنطقة، مشجعاً القوى الكبرى على الوجود القوي فيه لقراءة وجهاتها الإقليمية والإطلالة على حركتها الداخلية وتحركاتها في الإقليم.

لذلك تدخل روسيا في إطار من الاهتمام المشترك مع قوى لبنانية يترأسها التيار الوطني الحر الموالي للرئيس ميشال عون، وحزب المستقبل المرتبط بالسعودية التي تنسج علاقات جيدة مع موسكو، من دون نسيان الدور الإيراني المتحالف أيضاً مع روسيا في أكثر من موضع في الإقليم ومن خلال حزب الله في لبنان وسورية.

فيبدو الدخول الروسي إلى لبنان مقبولاً من الناحية السياسية، خصوصاً لجهة إيجاد حلول للنزاعات على الحدود البحرية والبرية مع الكيان الاسرائيلي، كما يمكنه إزالة الشوائب من العلاقات اللبنانية السورية «سياسياً واقتصادياً» وبما يتعلق بالخلافات الحدودية براً وبحراً.

وهذا يكشف مدى أهمية السياسة الروسية في لبنان لكنها قد تصطدم بعراقيل أميركية وأوروبية تستعر بحدة التنافس مع موسكو على لبنان الموالي لها تاريخياً، ولا شك في أنها ذاهبة إلى اصطناع عراقيل، لكنها لا تكون قوية لدرجة تمكنها من كبحه. لأنّ القوى الداخلية المحسوبة عليها أصبحت ضعيفة، ومحدودة أيضاً.

هناك قطبة مخفيّة تعمل عليها موسكو ـ وهي محاولة لربط إمكانات الغاز في لبنان وسورية في إطار تحالفي معها، ينافس المحور الأميركي للغاز في المنطقة الذي يضمّ مصرّ و»إسرائيل» وقبرص واليونان.

وبما أن لا قدرة للبنان على الالتحاق بحلف غاز فيه «إسرائيل»، ولا يستطيع منافسته تجارياً فإنّ التحالف مع سورية الواعدة بالغاز وروسيا الأولى عالمياً في إنتاجه، يوفر للبنان مسالك تصريف في إطار الهندسة الروسية للسيطرة على أسواق الغاز العالمية.

هل «يعسكر» الروس في لبنان؟ فرصهم كبيرة، وإمكاناتهم تشكل دواء للبنان، إنما المطلوب فقط، ان تعترف الطبقة السياسية اللبنانية بأهمية روسيا في توفير معظم مستلزمات لبنان بما فيها التغطية العسكرية والسياسية والاقتصادية في إطار سياسي حيادي يبعدها عن صراعات الإقليم واتجاهاته التدميرية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى