القصة القصيرة جداً والنقد التجاوزي

الدّكتورة درّيّة كمال فرحات

القصة من أكثر الفنون الأدبيّة إشكاليّة واتّساعًا وأميزها رؤية. وأسرعها انتشارًا، هي صوت زمنها، تتناغم مع جدلية تطوّرها، المستعصية على التنظير والتّأطير في ظلّ الانقلابات التي يشهدها العالم، وإنّ للرواية سحرًا أدبيًّا خاصًا وتاريخًا مكثفًّا، وقد عرفت السّاحة الأدبيّة المعاصرة غزارة في الإنتاج الأدبيّ. ويُعدّ الـفنّ القصصيّ من أبرز فنون الكتابـة والأكثر رواجاً، يعود ذلك لالتصاقه بحياة الإنسان واقعـاً وخيالاً، ماضياً وحاضراً، وتطلّعـات إلى دقائـق هذه الحياة وتفاصيلـها، وهـو يلامس أرض الواقع فيـها. وقـد يعيـش في هذا الواقع، ويستمدّ منه عـناصره، أو يبحر في أحلام النّاس، ويحملهم إلى دنيا خياليّة توازي عالمهم الذي ينشئونه في أحلامهم، ومع ذلك يظلّ أرفع قليلاً من متناول يد الإنسان العاديّ غير الفنان، ويحتفظ بسحره الأخّاذ. وقد تعدّدت أشكال السّرد بين القصة والرّواية والحكاية والأقصوصة، وصولًا إلى نوع أدبيّ جديد هو القصة القصيرة جداً.

يصعب على وجه الدّقة تحديد بدايات فن القصة القصيرة جدا «ق.ق.ج»، إلا أن بعض الأطروحات التاريخية تلفت إلى كتابات الأديب جبران خليل جبران التي تندرج تحت مسمّى «القصة القصيرة جداً» مثل «الثعلب»، «القفصان»، «التوبة»، أو ما رأيناه عند توفيق يوسف عوّاد في مجموعته القصصية العذارى، وإلى نص قصير لآرنست همنغواي الذي يقول فيه «حذاء طفل لم يُلبَس بعد للبيع»، لكنها كتابات لم تُعرف نقديّاً أو أدبياً كجنس أدبي مستقل، هذا إضافة إلى ما تركه نجيب محفوظ من كتابات قد يصنّفها البعض ضمن القصة القصيرة جداً، وقد عنون الكتاب الأوّل بـ «أصداء السيرة الذّاتيّة»، و»أحلام فترة النّقاهة»، ومحاولات يوسف إدريس الذي ضمّن مجموعاته القصصية قصصًا قصيرة كان ترد بين قسمي المجموعة الواحدة، وهي كلّها محاولات شكّلت إرهاصًا لما سيأتي.

وفي الوقت الراهن، نجحت القصة القصيرة جداً في شق الطّريق نحو التّأسيس لنفسها كفنّ مستقل بذاته، يجذب الكثير من المبدعين للإبداع فيه، إلا أن غزارة الإنتاج في هذا المضمار تثير إشكاليات تتعلّق بمدى فنيّة ما يتم تقديمه تحت هذا المسمّى في الوقت الراهن، واحتماليات تطوّره وانتشاره أو اندثاره وتراجعه مستقبلاً.

لكنّ مسيرة هذا الفن الأدبي أو الجنس الأدبيّ لم تكتمل إلى الآن، فهو في مرحلة البروز وإثبات الهوية والكينونة، ولم يسلم هذا الجنس من مشكلات ومنها مشكلة المعيار الكميّ، والبعض كتبها وكأنّه يكتب قصة قصيرة مختصرة، أو يكتب القصة القصيرة باختصار من دون الأخذ بعين الحسبان باقي المكوّنات المهمة.

وإذا كانت القصة القصيرة جداً تلائم رتم الزمن الحديث أي زمن التكنولوجيا وزمن التواصل عبر مواقع التواصل الاجتماعيّ، وتطوّر وحداثة هذا العصر الذي نعيش فيه، والذي يعتمد على الإيقاع السريع للحياة واللقطة المفارقة والإدهاش في نهاية السرد المختزل والمكثف للفكرة ورمزيتها وبنائها المدلولي، فإنّ ذلك بات سلاحًا ذا حدين، فرأينا الاستسهال الكبير الذي يمارسه بعض كتّاب المجموعات الأدبيّة على مواقع التواصل الاجتماعي، ما يسيء إليها.

ومن المشكلات التي تواجه هذ الجنس الأدبيّ هو تخلّف النقد عنها، فمعظم ما يُكتب من نقد لا يعدّ سوى محاولة لشرح مغزى النص، من دون الدخول إلى البنيّة الجمالية والأسلوبية لكتابته، وهذا يُفقد النّقد هدفه، أيضاً وجود الفكرة الجيدة لا يعني أبداً أن القصة ستكون جيدة، من دون أن تتوافر باقي العناصر وبأسلوب مبتكر. فالقصة القصيرة جداً تتميّز بالتقاطها للإشراقات الذهنية والنفسية والوجودية، أي تلك اللحظات الفارقة التي يحدث فيها تحوّل من نوع ما نفسي أو فكري أو واقعي، فيجتهد الكاتب المحترف في التقاطه وصياغته بشكل مكثف ولامع في نص قصصي قصير جداً، مع الحرص على توفر عنصر المفارقة والقفلة اللامعة.

إنّ الأدب يحاول اختراق الواقع وتجاوزه الى حدود أخرى لا يلجُها غيره، كي يحدّد هويته ويطورها. وعن طريق تأسيس هذه الهوية يزداد عطاؤه ويكتسب إبداعه بعدًا إنسانيًّا يفهمه كلّ البشر ومن أجل الوصول إلى تحديد الهوية وتقويتها نحتاج إلى توحيد الجهود والتّنسيق لإقامة عمل أدبي يكتسب قيمًا محليّة وينطلق بها إلى العربيّة ومن ثمّ العالميّة، ولن يكون ذلك إلّا إذا تغلّف بالأبعاد الإنسانيّة.

ومن المهم العمل على تطوير مفهوم الإبداع الأدبي، بحيث يشمل مختلف جوانب النّقد الحاضرة بقوة على ساحتنا الفكريّة. ومن المهم جداً استقراء مقوّمات النجاح شكلاً ومضمونًا من نماذج مشابهة عربيًّا. ويسعى ملتقى الأدب الوجيز إلى التّطوّر القائم على التّأثّر طالما أنّ النّقد أساسًا – هو عملية تأثريّة، والحركة النّقديّة قد استفادت من تجارب خارجيّة. ولأجل هذه القضايا جميعها برز ملتقى الأدب الوجيز، محاولًا تحديد الإطار العام لهذا الجنس الأدبيّ باحثًا عن هويته وكينونته، وعقد مؤتمره التأسيسي في لبنان تحت عنوان «الأدب الوجيز هوية تجاوزيّة جديدة»، وكانت مداخلات لنقاد وباحثين وأكاديميين من لبنان والوطن العربي، وأثار الإشكاليات العديدة المهمّة في تأصيل النوع وتحديد الخصائص والتّقنيات، وستكون موضوعات المؤتمر مادة غنية لكتاب سيتمّ نشره بأقرب وقت.

عضو ملتقى الأدبي الوجيز

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى