قالت له

قالت له: أليس الحب بالاحتفاظ بالحبيب وبذل المستحيل لمنع الافتراق؟

قال لها: القرار بالبقاء في خيمة الوصال مختلف عن الحب، فقد يكون الحب أحياناً بالانفصال والحفاظ على الاتصال.

قالت: وكيف يمكن للحب أن يكون بالانفصال؟

قال لها: عندما تفترق الطباع والمفاهيم ويصير التفاهم صعباً بعد انكسار الحواجز وتتوه اللغة في الحوار في حمى القسوة مبشّرة بفراق مع غضب يصير الانفصال الهادئ والمسالم والحريص أكثر تعبيراً عن الاهتمام ويصير الكلام الحار عن التمسك هو تعبير عن رغبة التملك وليس عن درجة الحب الذي إن لم ينجح بجعل اللغة أرق والاستدامة بالاهتمام فوق كل اعتبار فهو ليس حباً بل حب للحب.

قالت له: وما هو الحب في فهمك، إن لم يكن احتياجاً للشريك ورغبة بالبقاء معه وقلقاً من الابتعاد عنه؟

قال: أظن الحب مساراً صاعداً في المشاعر بين رجل وامرأة ينتظر أول اصطدام بارد وهادئ ليكشف حجم حضوره ومتى هبط وواصل الهبوط ومتى تغيّرت الكلمات وصارت أشد قسوة يصير كلوح زجاج تكسّر يصعب ترميمه، ويصير الحفاظ على الحبيب والحب معاً هو بحماية الذكريات والحنين إلى الصور الجميلة، ومهما كانت الأعذار في أسباب تتصل بالثقة أو بضغوط الحياة يبقى الأهم أن الحب لم ينجح في منع تداعياتها من اقتحام ملعبه وفرض حضورها بقوة وترك آثارها كجروح يصعب شفاؤها. ومتى تأقلمنا على فرضية الاقتراب ثم الابتعاد ثم الاقتراب فالابتعاد صار الشعور بالحاجة طلب تملك والشعور بالفقد تعبير عن شعور بالفراغ سرعان ما يزول متى زال الفراغ بأي انشغال، لذلك يكون الحب هنا حاضراً لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بإبداء الحرص على الماضي إن لم يكن متاحاً بناء المستقبل.

قالت: أنت تتّهمني بالسوء.

قال: لو كان تقييمي لك بالسوء لما دخلت في هذا الجدال، بل أراك كما كنتِ الأجمل والأعقل والأمثل. وأرغب أن يبقى لكل منا مساحة في حياة الآخر تحفظ الماضي وتنفتح على نوع جديد من الحب فيه بدلاً من الوصال الاتصال وبدلاً من الرعاية العناية وبدلاً من التملك التمسك. وما أقوله إن ظروف نضج الناس في تجاربهم تغنيهم وتزيدهم تألقاً إن كانوا من معدن طيب وأنت كذلك لكن هذه التجارب تطحن في طريق نضجها أشياء كثيرة منها أقرب الناس إلينا ومنها بعض ما تمنينا أو بعض ما استخفينا قبل أن نكتشف أنه أهم من أن نعتبره عابراً أن نسمح لأنفسنا أن نعامله يوماً بتلك القسوة ونقابل التمسك بالإقصاء بوهم الاستغناء أو نبادل الاهتمام بالتباهي والغلو ونمنح أشياء عابرة الانبهار ولا نسأل كيف يكون الانهيار، لكن ما مضى قد مضى ونضجنا ودفعنا فواتير النضج من المشاعر والأعمار، فنقابل بنضجنا القدرة على التأقلم مع الأفضل. والأفضل هو ألا نغادر بعضنا خصوماً بل أن يبدي كل منا للآخر حرصاً وعناية كرفيقين يسيران على ضفتي نهر لن يسبح أحدهما نحو الآخر ويتقبلان أن بعض الحديث بينهما يأكل صداه صوت المياه المتدفقة أو العصافير المزقزقة.

قالت: وما عساي أقول لدموعي المترقرقة؟

قال لها: كفكفيها كأنّها يدي وأعلم صدق الدموع المحرقة.

قالت: أهو الوداع؟

قال لها: هو اللقاء من جديد منعاً لوادع مظلم وظالم وأملاً بأيام مشرقة.

قالت له: أتضمّني؟

قال لها: أنت بعض مني أضمّه في كل حين فلا تكوني بالظنون مستغرقة.

قالت: أتلعب لعبة الكمات المتحذلقة؟

قال: أتذكرين كيف لعبناها مرة فكنت الشوكة والسكين وكنت الملعقة.

قالت: وكنت المسمار وأنت المطرقة وصرت القارب العابر وأنا أمواجك المغرقة.

وضم أحدهما الآخر ومضيا.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى