بعد انهيار المعاهدة النووية المتوسطة: كيف يمكن وقف سباق تسلح نووي جديد؟ واشنطن تنسحب من المعاهدة النووية مع روسيا وعينها على ترسانة الصين

اهتمّت أوساط عديدة بمتابعة لقاء القمة بين الرئيسين الأميركي والروسي خلال قمة الدول الصناعية، في أوساكا باليابان، بانتظار بروز دلائل ومؤشرات قد تقود إلى انفراج في العلاقات الثنائية، أم إلى مزيد من التوتر والصدام.

من بين القضايا التي بحثها الطرفان: نظام الحدّ من الأسلحة، التجارة بينهما، إيران، فنزويلا، سورية وأوكرانيا. لكن البيانات الصادرة لم تُشر إلى نوايا اتفاقات جديدة أو عزمهما على متابعة اللقاءات في ما بعد.

صدر عن الجانب الروسي مواقف إعلامية متباينة: مساعد الرئيس للشؤون الدولية يوري اوشاكوف، أبلغ الصحافيين أنّ عامل الزمن داهم الجانبين مما حرمهما من «نقاش عدد من المسائل بعمق». بعبارة أخرى، لم يتوصل الرئيسان إلى ما يمكن وصفه بالاختراق في العلاقات الدولية.

الناطق الإعلامي باسم الرئاسة الروسية، ديميتري بيسكوف، طمأن جمهوره عبر التلفزيون الرسمي بأنّ موسكو «لمست مؤشرات مشجّعة من الرئيس ترامب خلال اللقاء.. والذي أظهر بوضوح رغبته لإعادة تنشيط الحوار».

لعلّ القراءة السريعة لتلك التصريحات تقود المرء لمربع الجزم بعدم تحقيق انفراج بين العظميين النوويين، بيد أنّ الأحداث المتسارعة وردود الفعل الأميركية بشكل خاص دلت ربما على عكس تلك الأجواء.

سرت أنباء عن عقد مجلسي الأمن القومي في كلا البلدين جلسات طارئة شبه متزامنة قبل أيام معدودة، استدعي فيها نائب الرئيس الأميركي، مايك بينس، وهو في طريقه بالطائرة للعودة الفورية إلى واشنطن وحضور الاجتماع أمر غير مسبوق بالإعلان عنه لدى الإدارة الحالية.

المعلومات الموثقة حول حقيقة ما جرى بين الطرفين يغلب عليها طابع التكهّن والتحليل، وعليه فمن غير المستبعد أنّ لقاء الرئيسين القصير نسبياً في اليابان أسفر عن جملة ترتيبات لا ترضي بعض الجهات في دوائر المؤسسة الأميركية الحاكمة، لا سيما العسكرية والاستخباراتية، سعت بنشاط لتقويض أيّ ترتيبات قد تنشأ عن لقاء القمة منها تحريض تل أبيب بشنّ غارات متزامنة على ريفي دمشق وحمص وما رافقها من غموض حول طبيعة «الجسم الحربي» الذي سقط في الأراضي القبرصية، إنْ كان لبقايا صاروخ سوري أس -200 أم لمقاتلة «إسرائيلية» حديثة!

ما يعزز سردية صراع مراكز القوى الأميركية أيضاً «مسرحية» لقاء الرئيس ترامب برئيس كوريا الشمالية لبرهة وجيزة، بعد انفضاض قمة العشرين، وما يجري تداوله في أروقة واشنطن السياسية بأنّ ترامب راغب في التوصل لاتفاق جديد مع نظيره الكوري كيم جونغ أون يسمح بموجبه للأخير الاحتفاظ ببعض الأسلحة النووية وما إبعاد مستشاره للأمن القومي جون بولتون عن ذلك اللقاء إلا دليل آخر على توجه ترامب.

سياسة موسكو نحو واشنطن هي منافستها في النفوذ العالمي لكن دون الاصطدام معها، وتقديم بعض التنازلات عند الضرورة. أوجزها نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريابكوف، في شهرية موسكو الرصينة الشؤون الدولية، مطلع العام الحالي بأنّ عمادها هو «الصبر الاستراتيجي.. في المدى المنظور».

بعد اختتام لقاء قمة مجموعة العشرين أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنّ موسكو وواشنطن ستباشران محادثات حول مسألة الحدّ من الأسلحة النووية «كلفنا وزيرينا للشؤون الخارجية ببدء مشاورات بهذا الصدد. لكن لا يمكننا القول بعد إنّ ذلك سيؤدّي إلى تمديد اتفاقية «ستارت» للحدّ من الأسلحة النووية الاستراتيجية.

في 3 تموز الحالي، أعلن الكرملين عن «توقف روسيا الالتزام» باتفاقية الأسلحة النووية المتوسطة، INF، رداً على قرار واشنطن الانسحاب من المعاهدة المبرمة بينهما عام 1987 أرفقه مباشرةً بأمر لوزير الدفاع بتطوير نماذج جديدة من الصواريخ المتوسطة خلال عامين.

وحذر بوتين خلال المنتدى الاقتصادي في سان بطرسبرغ، مطلع حزيران الماضي، من التداعيات المحتملة إذا جرى التخلي عن اتفاق «ستارت الجديدة» بما أنّ البديل سيكون تأجيج سباق تسلح نووي بين البلدين وأنه «لن تكون أيّ أدوات تحدّ من سباق التسلح، مثل نشر الأسلحة الفضائية.. هذا يعني أنّ الأسلحة النووية ستكون موجهة فوق رأس كلّ واحد منا كلّ الوقت».

وشدّد بوتين خلال اللقاء على أنّ بلاده «تجاوزت منافسيها في مجال صناعة الأسلحة المتفوّقة».

وفي السياق عينه حذرت يومية «واشنطن بوست»، شباط 2019، من عدم توصل الطرفين «البيت الأبيض والكرملين لاتفاق تمديد العمل بمعاهدة «نيو ستارت» مما سيعيدنا إلى الزمن الذي كانت فيه واشنطن وموسكو تمتلكان أسلحة نووية دون قيود متفق عليها أيّ المغامرة بالعودة إلى سباق تسلح نشط على غرار الحرب الباردة».

وشاطرها الرأي عدد من النخب الفكرية والسياسية الأميركية بالإعراب عن القلق من «انهيار معاهدة الأسلحة النووية المتوسطة الذي يعدّ بمثابة إظهار للحرب الباردة علناً، إيذاناً برسم معالم للحرب الساخنة، وما سيترتب عليها من سباق تسلح غير مقيّد من الطرفين». باعتقاد تلك النخب الأميركية فإنّ المسارات السياسية لدى مراكز صناع القرار في واشنطن تمضي باتجاه «إعادة ترتيب الأوراق الأميركية وفق معايير لاتفاقيات جديدة تراها الإدارة الراهنة بأنّ سابقاتها لا تخدم المصالح الأميركية» جسّدته بالخروج من الاتفاق النووي مع إيران ومعاهدات المناخ الدولية، على سبيل المثال.

الخبير الأميركي المختص بشؤون الأمن الدولي، جوزيف سيرينسيوني، أوضح مراراً أنّ سياسات الإدارة المتشدّدة في القضايا العالمية يمثلها مستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي، جون بولتون، الذي «يعتقد بأنه يتعيّن على الولايات المتحدة التحلي بأقصى قدر من المرونة وتوفر خيارات عسكرية متعدّدة لصيانة أمنها والحفاظ على مصالحها عبر العالم، وليس التمسك بالمعاهدات التي يعتبرها تقيّد القوة الأميركية».

يشار في هذا الصدد إلى تبنّي الكونغرس، ممثلاً بمراكز قواه الرئيسة، توجهات الإدارة للتحلّل من المعاهدات الدولية ورصده ميزانيات إضافية، عام 2017، للبنتاغون لتطوير أسلحة وخيارات إضافية في مجال الصواريخ الباليستية متوسطة المدى القادرة على حمل رؤوس نووية إيذاناً بنية عدم الموافقة على تجديد أو تمديد العمل بمعاهدة «نيو ستارت» المبرمة عام 2010، في عهد الرئيس أوباما، والتي سينتهي مفعولها عام 2021.

المعاهدة المذكورة حدّدت عدد بطاريات إطلاق الصواريخ الاستراتيجية المسموحة لكلّ من الطرفين، دون المسّ بالترسانة النووية أو ما يمكن أن تحمله منها المقاتلات والقاذفات الاستراتيجية من طراز أف- 35، أف-16 وأف- 15.

حلفاء أميركا الأوروبيون قلقون بشدة من سباق التسلح بين العظميين النوويين، وخاصة ألمانيا لخشيتها الحقيقية من عودة سباق التسلح إلى «زيادة فرضية المواجهة النووية مرة أخرى في الفضاء الأوروبي.. وما شهدته أراضيها من احتجاجات كبيرة متواصلة ضدّ سباق التسلح» في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.

وزير الخارجية الألماني هايكو ماس دعا «المجتمع الدولي» لتبنّي مبادرة جديدة لنزع الأسلحة النووية «ليس بين الولايات المتحدة وروسيا فحسب، بل ينبغي أن تشمل دولاً أخرى مثل الصين»، مجلة «دير شبيغل» 2 شباط 2019 متعهّداً بأنّ «الحكومة الألمانية ستعمل من أجل وضع قواعد عمل جديدة للتعامل مع التقنية الحدديثة لمنظومة الأسلحة الجديدة».

الدعوة الألمانية للحظر من سباق تسلح يفضي إلى الاقتتال بالأسلحة النووية سبقه توقيع كلّ من روسيا والصين على «مسودة معاهدة مشتركة» لمنع سباق للتسلح في الفضاء الخارجي قبل عقد من الزمن، أعلن عنها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في منتدى دولي عقد بجنيف في شهر شباط 2018، لاستشعار الدولتين خطورة تطوّر تقنية الأسلحة، من بينها نظم تعمل بأشعة الليزر، تتخذ من الفضاء الخارجي مسرحاً جديداً بين القوى العظمى.

الردّ الأميركي، آنذاك، جاء برفض الانضمام للمقترح الروسي على لسان مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الحدّ من التسلح، إليم بوبليت، 14 آب 2018، مؤكدة «انزعاج واشنطن من سعي روسيا التسلح بتقنيات فضائية… والمعاهدة التي تقترحها موسكو لن تمنع نشر مثل تلك الأسلحة ولن تمنع أيضاً اختبار أو تخزين أسلحة مضادة للأقمار الاصطناعية».

لم تعد هيئة الأمم المتحدة تمارس دورها المنوط بها للحدّ من انتشار الأسلحة المحرمة، كيميائية أو نووية أم الكترونية إذ لا تزال معاهدة حظر استخدام أسلحة الدمار الشامل خارج مدار الكرة الأرضية سارية المفعول «لكنها لا ترتقي لمستوى حظر حرب في الفضاء»، أمام التطورات التقنية الاستراتيجية مثل الإنذار المبكر والاتصالات الآمنة وجمع المعلومات الاستخباراتية والقيادة والسيطرة في الفضاء، حسب دراسة لمجموعة «علماء الذرة» الأميركية، 5 حزيران 2015.

قائد سلاح الجو الأميركي، ديفيد غولدفاين، طالب صنّاع القرار في واشنطن «الإعداد لمعركة تدور خارج مدار كوكب الأرض.. إنها مسألة وقت قد تحدث في غضون سنوات». اكتوبر 2018 .

كما حذر تقرير لمكتب المحاسبة الحكومي، GAO، صدر يوم 9 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2018، من تعرّض «جيل كامل من نظم الأسلحة الأميركية للقرصنة الالكترونية.. التي توصل خبراء البنتاغون لاكتشاف نقاط ضعف الكترونية خطيرة» في جميع الأسلحة قيد التطوير، ووزارة الدفاع «لا تعرف آفاق نقاط الضعف في نظم الأسلحة التي يمكن أن تؤثر على أنظمة الأسلحة النووية الأميركية بنتائج كارثية».

عرضت شبكة سي أن أن للتلفزة الأميركية، 25 حزيران 2019، تقريراً يشير إلى ما تمتلكة الولايات المتحدة من أسلحة حديثة وغير تقليدية: الكترونية سيبرانية، كهرومغناطيسية، وبيئية ايكولوجية جرى استخدامها في ساحات متعدّدة استهدفت البنى التحتية والمرافق الحيوية لخصومها، بالدلالة على ما تعرّضت له إيران من «زلازل طبيعية»، وفنزويلا باستخدام السلاح الكهرومغناطيسي لقطع الكهرباء، وأسلحة أخرى لم يكشف النقاب عنها.

دعوة الوزير الألماني ينبغي تطويرها لتبني اتفاقية دولية لمنع التسلح «داخل الفضاء الالكتروني.. وخلوّه التام من الأسلحة، والامتناع عن استعمال الأسلحة الالكترونية أو التهديد باستعمالها ضدّ دول أخرى أقلّ شأناً، وإلزام كافة الدول الفاعلة في هذا المجال احترام الفضاء الالكتروني مرفقاً دولياً يشكل تهديده تأثيراً على الأمن العالمي قاطبة»، وفق ما يطالب به خبراء القانون الدولي، والزام الدول المتقدّمة تقنياً بمعاهدات صارمة تضمن عدم انتهاكها لواجباتها في استخدام الفضاء الخارجي للأغراض السلمية.

بالعودة لنظرية «الصبر الاستراتيجي» لروسيا في تعاملها مع الولايات المتحدة، أعرب خبراء أميركيون بالشأن الروسي عن اعتقادهم بأنّ مراهنة الكرملين طويلة الأجل تستند إلى ركيزتين: الأولى، قراءته للمناخ التحريض والاستقطاب السياسي الأميركي المعادي لروسيا بأنه سيفقد زخمه مع مرور الزمن، مما سيمهّد لبروز «إجماع داخلي» مختلف حول كيفية التعامل بين البلدين وضرورة السعي لتطبيع العلاقات بينهما. والركيزة الثانية تتمثل بحتمية قبول واشنطن «في السنوات الخمسة إلى العشرة المقبلة» بأنها لن تستطيع مواجهة مزدوجة في آن واحد لكلّ من روسيا والصين، مما سيحفز مراكز القوى الجديدة على تحسين علاقاتها مع موسكو. أسبوعية ذي ناشيونال انترست، 2 تموز 2019 .

كما انّ تنامي القدرة على إنتاج أسلحة نووية تكتيكية محدودة الحجم والقدرة التدميرية، يفرض ضرورة إعادة النظر بالاتفاقيات السابقة حول الأسلحة الاستراتيجية ومناقشة تطوير اتفاقيات جديدة تشمل الأجيال الجديدة من الأسلحة النووية.

مركز الدراسات الأميركية والعربية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى