الموازنة: اللاتوازن مع مصرف لبنان في السيادة المالية !

ناصر قنديل

– يسهل على أي متابع للوضع المالي في لبنان قراءة خط بياني لثلاثين عاماً مضت، عنوانه تضاؤل فعالية وقدرة وزارة المال مقابل تزايد وتوسّع قدرة وفاعلية مصرف لبنان، وبالتوازي تراجع حجم الاقتصاد بكل قطاعاته مقابل تنامي قدرات وودائع المصارف. والكلام هنا لا يزال توصيفاً وليس انتقاداً. توصيف يستدعي التفسير العلمي، والاستخلاص ما إذا كان علامة صحة وعافية او دليل مرض. وفي حال كان مرضاً، يصح التساؤل عن توصيفه ودرجة خطورته ونوعية العلاجات المطلوبة.

– الأرقام تقول إن ودائع المصارف حوالي مئة وسبعين مليار دولار 170 ملياراً مقابل دولة تبلغ ديونها نصف القيمة تقريباً 85 مليار ، وتقول الأرقام إن احتياط مصرف لبنان، حوالي خمسين مليار دولار 50 مليار مقابل عجز سنوي في خزينة الدولة يعادل ستة مليارات دولار 6 مليارات . ومصرف لبنان والمصارف التجارية موضع إشادة دائمة من الهيئات الدولية، ووزارة المالية والحكومة اللبنانية موضع اتهامات وتشكيك، والحركة الاقتصادية التي تؤشر إليها نسبة التمويل التي يحصل عليها القطاع الاقتصادي بالقياس إلى إجمالي الديون التي تمنحها المصارف التجارية، هي في أسوأ الأحوال، فالحركة الرئيسية للديون المصرفية تتجه نحو الدولة وسندات الخزينة بفوائد عالية، في كثير من الأحيان لا تحتاجها الدولة، بل يبررها مصرف لبنان بقاعدة وضعها منذ ثلاثة عقود تقريباً عنوانها سحب السيولة من المصارف تحت شعار ضمان سعر الصرف، والمستفيد هي المصارف التي لها أبواب إضافية للإفادة لا تقتصر على ما يُعرَف بالهندسات المالية، ومصرف لبنان جاهز دائماً لتلبية ما يستدعيه واقع تفوق القطاع المصرفي، ولا يرغب بإعادة المؤسسات التي وضع اليد عليها كطيران الشرق الأوسط، تحت شعار الإنقاذ فصارت بألف خير وبقيت في حضنه الدافئ.

– بدأت حكاية المسار الأعرج منذ صارت الاستدانة هدفاً لا وسيلة، وتحوّلت إلى سياسة دائمة، وصارت الفوائد المرتفعة سبباً كافياً لتجميد الاقتصاد، وبدأ الانتقال من الاقتصاد الطبيعي والمالية الطييعية إلى الاقتصاد المصطنع والمالية المصطنعة، حتى استفقنا ذات يوم على ديون تجعلنا تحت انتداب دولي، يُملي الشروط، ويُعيّن المفوض السامي لإدارة تفليستنا، وهو مصرف لبنان، والديون تكفي للشعور بالعجز والحاجة لتقديم التنازلات، والتخلّي عن السيادة، والقبول بالإملاءات، وليس بعيدة عنها مترتبات العقوبات، فمن لا حول ولا قوة لها ملزم بقبول التجاوب مع العقوبات ومندرجاتها بطيب خاطر، ومن دون احتجاج أو اعتراض.

– في الحال المالي للبنان، فأي موازنة لا تحلّ المشكلة، لأنها تتم تحت سقف هذه الإقرارات الضمنية، تراجع سيادة الدولة على مصرف لبنان وحلول تحكم مصرف لبنان المدعوم من الخارج الدولي مكان الدولة كلها في رسم السياسات المالية، تراجع الاقتصاد لحساب المصارف كقوة تتحكم بالحركة الاقتصادية والمالية، تراجع لبنان كله كدولة سيادية بمصارفه التجارية ومصرفه المركزي أمام الهيمنة الخارجية على قراره المالي، وأي معالجة لا تأخذ بالاعتبار أن الهدف النهائي يجب أن يكون إعادة التوازن بين مصرف لبنان والحكومة وفقاً لنصوص القانون، وإعادة التوازن بين المصارف التجارية والقطاعات الاقتصادية، وإعادة التوازن بين الدولة والخارج في حفظ مفاهيم السيادة، لن تحقق أي خروج من الأزمة ولن تخفف مفاعيلها، بل ستفعل شيئاً واحداً هو أنها ستؤخر قرار الخارج بإسقاطنا بالضربات المالية طالما ننفذ تعليماته، وهي تعليمات لا نعلم متى تأتي ساعة يكون عنوانها قبول التفريط بالسيادة الوطنية… وربما التوطين!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى