«أطياف زجاجية»… قدريّة أحداثها رفعت من منسوب شفقتها!

محمد رستم

منذ المعنون الأعلى «أطياف زجاجية»، نتلمّس بأنه اختير بعناية فائقة كمركّب إضافي جمع بين شيئين يوحي كلٌّ منها بالشفافيّة على نيّة إضمار المبتدأ الذي ترك في نيّة الغياب، ليبقى المعنون كسقف عالٍ للمرويّة التي ابتدعتها اللبنانية لبنى الحاج، عالقاً على مشنقة التأويل التخمين.. على أساس مظلمة الحياة لـ»رغد» بطلة المرويّة، عمّرت الحاج مرويّتها، لنمسك معها منذ البداية محورها الدلالي الأهم، هو تتالي مطر الخيبات والانكسارات التي ما فتأت الهطل منذ أول صفحة، أول لحظة شهدت ولادتها كـ»لقيطة»، الصفة التي ظلّت سيفاً شطيراً مسلّطاً على إنسانيتها، ليزيد أكثر من تعاستها وفقدانها لاتزانها النفسي.

أليست تلك الصبغة «الدناسة والخطيئة» التي دمغت بها «رغد» كفيلة بأن تضعها كريشة في مهب الآلام والشقاء؟! تلك وحدها كفيلة بإغلاق أبواب الراحة والهناءة في وجهها حيثما اتّجهت، فكيف إذا كان هذا الإنسان، أنثى؟

لا تعدو كونها الضلع المعوجّ والقاصر لآدم، الكائن المهيض الجناح تضرب في رابعة الضياع والشقاء حيث ترمي بها عواصف الأنواء وحيدة.

نعم، وحيدة والإنسان مذ خلق هو ثاني اثنين، لا ينفرط عقدهما إلّا بالموت كجناحَي الطائر لا يحلق إلّا بهما معاً.. إذن المقولة التي تطرحها الرواية وبرتم عالي النغمة هي الأنثى الصوت والصورة والحضور، عندما تواجه هوج عواصف الحياة وحيدة. ومما يحسب للكاتبة كخطّ تالٍ في الرواية، بأنّها ألبست ثوب البطولة المطلقة للأنثى «مريم»، ليكون حيف الحياة عليها مضاعفاً وأكثر وقعاً والظلم أشدّ فجيعة.

هو ما استطاعته الكاتبة بأنها حصدت بسهولة مزيداً من العطف والتعاطف معها من معشر القراء، دون أن تسلّم لهم قياد مرويّتها، بعدما ولجت الكاتبة ذائقتنا القرائية من باب الشفقة الواسع فزرعت درب القارئ المتلهّف للإمساك بنواصي القفلة بتفخيخات الألم والخيبات، لتستدرّ لبان الشفقة، ولم تنته هنا فقط بل افتعلت المزيد من الظلم ـ عمداًـ لتزيد من منسوب التعاطف الدرامي مع المرأة المنكودة.. اللقيطة ذاتها التي جاءت مغسولة من الراحة والسعادة منذ ولادتها، فبات الزمن لديها مفتوحاً على كلّ الاحتمالات السوداء.

وحين اعتقدت أنّ الحياة ابتسمت لها، بعدما اكتنفتها بائعة الزهور «رغد أمين» تحت جناحها، كانت الخيبات والآلام قد كمنت لها وراء أول منعطف، إذ لم تلبث «رغد أمين» المقطوعة من شجرة، أن ماتت تاركة لها الجمل بما حمل، فحلّت «مريم» محلها وأخذت اسمها.. وكأن نور شمسها بدء يرتب خيوطه، والحظ ابتسم لها ثانية، حين أعجب بها «نبيل» كبير الصيارفة وارتبط بها زوجة.

لكن نكد الدنيا كان لها بالمرصاد، كالريح التي تعاند السفن المبحرة، حين دخلت على حماتها وهي تتشاجر مع ابنتها، والبنت ترفع المسدس وتهدّد أمها، وحين حاولت رغد أخذ المسدس، وذلك لفضّ المشكلة انطلقت رصاصة… وقتلت البنت.

اتُهِمت «مريم» بالجريمة من قبل الأم وذلك لتخفي سبب الخلاف، وعلى أثر ذلك يطلقها نبيل وهي حامل بابنتها «سارة»، التي ولدت بعملية قيصرية.. وبطلب من أم «نبيل»، أُخبرت «مريم» أن ابنتها ولدت ميتة، ليقوم المحامي بتبنّيها.. وهكذا كانت «مريم» والتي أصبحت «رغد أمين»، ما إن تخرج منكسرة من معركة غير متكافئة حتى تجد نفسها في أخرى أشدّ مرارة وإيلاماً. مضت في محراب الوجع تبتهل لبصيص من أمن وفرح، وتجسّد الأمل أمامها حين أخبرها المحامي، إنّ ابنتها لم تمت وهي في رعاية عائلة غنية، واتفقت معه على أن ترقب ابنتها عن بعد، دون أن تبوح لها بالحقيقة..

تتلبّس المتلقي حساسيّة مفرطة التوتر مغمّسة بدفء الشفقة منذ السطر الأول حيث تمتاز الكاتبة بملكة تركيبيّة تجيد حبك الأحداث متخذة من مشاعر الرأفة مرجعيّة للاحتكام.

هذا وقد اعتمدت الكاتبة أسلوب الخطف خلفاً «فلاش باك» في مرويّتها، كما أنها لعبت على مسرحة الحدث داخل مسرح الحياة المرويّة. تقول، «من خارج النصّ كراوٍ.. حين كنت منشغلاً في تدوين ما كان يقرؤه السيد نبيل، فليس لرغد إلّا أن تتلقى زخ المصائب وأمطار الفجيعة بمزيد من البلل والألم والخيبة».

ولكنّ الكاتبة ومن طرف خفّي وبشكل موارب، جعلت الوردة النديّة تتفتح من قلب الآلام والعواصف، حيث تلوح «سارة» ابنة «مريم» امرأة في زهو الحياة.. وهي الامتداد الخفّي لـ»مريم».. هذا وقد تلطّت الكاتبة وراء الأسماء ذات الدلالة العكسيّة، فالبطلة حين ولادتها أُطلق عليها «مريم»، رمز الطهارة، وهي المولودة لقيطة، كما أسمتها «رغد» وهي التي لم تر من الحياة إلّا التعاسة، وزوجها «نبيل» الذي لم نر منه إلّا النذالة.. حيث أدار ظهره لزوجته مع أنّ المحكمة برّأتها مما نسب إليها من تهمة قتل أخته ، كما أنّ اسم «جاد» ابن «سارة»، يوحي بانفتاح الحياة على الكرم وهو عكس الضنك وضيق ذات اليد الذي اكتوت منه «مريم».. هذا وقد وقعت المرويّة في مطبّ القدريّة حيث قسرت الكاتبة الأحداث، مثل موت الراهبة، موت «رغد» بائعة الورود، موت أخت «نبيل»، إخفاء ابنة «مريم» عنها.. طلاقها المتسرّع، كلّ ذلك ليظلّ ماضيها مستبداً بحاضرها، حتى أنّه أطفأ شمعة المستقبل وليس لها إلّا أن تتلقى دفعة من زوادة الصبر، لتظل قادرة على مواجهة وجع الحياة فراحت تلوذ بإرادة الحياة لتكسر القهر الذي «تعنكب» في قلبها.

كل ذلك عبرناه بأسلوب سرديّ شاعريّ، بعد السطر الأول من الدمع، تجاوز قلم سارة رهاب الحكاية.

وواضحة اللفتة الذكيّة في الحديث عن شبق التوحّد الصلصالي بين «سارة» وزوجها، آدم بتناغم… ثمة احتشاد داخلي كان يدفعهما خارج دائرة المكان .

ولا بدّ من الإشارة إلى النهاية التي جاءت استعراضية توخت الكاتبة منها واقعية حكايتها.

كاتب سوري.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى