«فورين بوليسي»: كيف أصبح مستقبل أوروبا مرهوناً بدول شمال أفريقيا؟

أوضح ستيفن كوك، الزميل البارز في قسم الدراسات الأفريقية والشرق أوسطية بمجلس العلاقات الخارجية الأميركي، في هذا المقال الذي نشرته مجلة «فورين بوليسي» الأميركية، أنه ينبغى على الولايات المتحدة أن تتوقف عن وضع منطقة شمال أفريقيا في مرتبة ثانوية بعد باقي دول الشرق الأوسط.

يتذكّر كوك أنه في أول زيارة له إلى واشنطن في عام 1990، وجد أنّ المنشغلين بأمور شمال أفريقيا قلةً، إنْ لم يكونوا منعدمين. ويقول إنّ المنطقة بدت كما لو أنها معزولة إذ لم يأت أحد قط إلى واشنطن لحلّ مشكلة الصحراء الغربية.

وفي المقابل، يقول كوك أنّ مناضلي السياسة الأميركية الخارجية شقوا أهمّ الطرق وأسرعها لضمان الحماية لممرات الملاحة عبر الخليج العربي، ولكتابة سطور مبتذلة، على حدّ قوله، عن مدى ملاءمة العقيدة الوهابية المتشدّدة والناشئة من مثل هذا المشهد القاسي، ومن أجل أيضاً تعقب عملية السلام شديدة الصعوبة بين الفلسطينيين و»الإسرائيليين».

يعتقد كوك أنّ الولايات المتحدة لا تزال حتى اليوم تتبنّى رؤيةً ضيقة الأفق تجاه منطقة شمال أفريقيا، ما يعدّ في رأيه أمراً مؤسفاً لأنّ مصالح الولايات المتحدة في شمال أفريقيا أهمّ بكثير من هواجس الشرق الأوسط القديم والحديث لدى الدوائر السياسية.

شمال أفريقيا وأوروبا

يرى كوك أنّ تأمّل الخريطة العالمية يمكن أن يخبرنا تقريباً بكلّ ما نحتاجه لمعرفة منطقة شمال أفريقيا وأهمّيتها لإحدى المصالح الجوهرية للولايات المتحدة -ألا وهي الاستقرار والأمن في أوروبا. بالطبع تعدّ المنطقة ذات أهمية كموطن لملايين من البشر، لكن جيرانهم في الجهة الأخرى من البحر المتوسط كانوا لفترة طويلة وما زالوا محوراً لسياسة الولايات المتحدة الخارجية.

يشير المقال إلى الفوارق المساحية بين بلاد شمال أفريقيا والدول الأوروبية على الجانب الآخر من البحر المتوسط، فيذكر أنّ ما يفصل بين الساحل التونسي والساحل الإيطالي 149 ميلاً فقط، أما من ليبيا إلى اليونان فيوجد 286 ميلاً. وتبعد الشواطئ الجزائرية 469 ميلاً فقط عن شواطئ فرنسا – أيّ المساحة من واشنطن إلى تشارلستون وجنوب كارولينا. ويفصل المغرب عن إسبانيا 9 أميال فقط.

يرى كوك أنّ عامل القرب الجغرافي، إلى جانب التراث الاستعماري، قد شكلا المنطقة على نحو جعل من المغرب العربي أو على الأقلّ الحافة الشمالية منه يبدو متشاطراً من الناحية الثقافية بصورة أكبر مع جنوب أوروبا عن جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا. ويضيف كوك إلى ذلك حالة الأزمة الاقتصادية في أوروبا، والتدفق المستمرّ للمهاجرين من البلدان الأفريقية، وأسراب الجماعات الإرهابية، بالإضافة إلى مصادر الطاقة الوفيرة.

يعتقد كوك أنّ من المبالغة أن نطرح أنّ ما يحدث في شمال أفريقيا ينعكس على أوروبا، لكن ليس بالقدر نفسه. ويقول إنّ الولايات المتحدة لا يزال لديها مصلحة ملحة في أوروبا، التي وصفها الرئيس الأميركي الراحل جورج بوش الأب بأنها «متكاملة وحرة».

ويشير كوك إلى القلق المتزايد بين صنّاع السياسة في واشنطن على تعرّض أوروبا للخطر ذلك لأنّ كميةً كبيرة من غازها الطبيعي يأتيها من روسيا. يشير كوك بأنّ 11 من هذا الغاز يأتيها من الجزائر. ويرى أنّ هذا الأمر قد لا يبدو مهمّاً، لكن بعض البلدان الأوروبية أكثر عرضة للخطر من غيرها، حسب رأيه.

يذكر كوك إسبانيا على سبيل المثال، فهي تحصل على 52 من غازها الطبيعي من الجزائر، وهي الدولة الشمال أفريقية العملاقة التي تعدّ ثاني أكبر مزوّد للنفط في إيطاليا. لذلك يعتقد كوك أنه إذا انزلقت الجزائر إلى العنف وهذا ليس خارج دائرة الاحتمال وتعطلت إمداداتها للغاز بطريقة ما، فسوف تواجه أوروبا مشكلة كبيرة. يتساءل كوك، هل يمكن للقارة أن تعوّض ذلك من مصادر أخرى؟ ويشير إلى امتلاك ليبيا كمية كبيرة من الغاز، لكنها في خضمّ حرب أهلية طاحنة.

ويشير إلى مصر، التي تمتلك أيضاً كميات ضخمة من الغاز، لكنها غير قادرة على تعويض أيّ عجز قد تمرّ به أوروبا. يرى أيضاً أنّ «إسرائيل» سوف تودّ أن تبيع الغاز لأوروبا، لكن أوروبا تتصوّر أنّ خط الأنابيب الواصل إليها قد لا يكون عملياً من الناحية الاقتصادية.

ينتقل كوك إلى الهجرة. وهي، حسبما جاء في المقال، قضية أغضبت زعماء أوروبا، إذ وجدوا أنفسهم بين النزعة الليبرالية العالمية للاتحاد الأوروبي وبين النزعة القومية العنيفة التي كان من المفترض أن تنفصل تلك القارة الموحدة الديمقراطية المزدهرة عنها. بالطبع، لم يؤسّس المهاجرون القادمون إلى الشواطئ الأوروبية عبر شمال أفريقيا الأحزاب القومية اليمينية والفاشية في أوروبا، لكن كوك يرى أنهم كانوا سبباً في انتعاشها، ويقول إنّ تأثير ذلك على أوروبا مدمّر.

وباستبعاد التطورات في النمسا والمجر وبولندا، يرى كوك أنّ زعماء حملة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وحزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف قد غذوا أزمة الهجرة إلى أوروبا عام 2015 من أجل تعزيز أجنداتهم المدمّرة والخطيرة.

ويعتقد كوك أنّ زعزعة الاستقرار في المملكة المتحدة والاستقطاب السياسي المحتمل في ألمانيا يثيران قلقاً عميقاً، ويمثلان كذلك نكسةً استراتيجية للولايات المتحدة. ذلك لأنه، في رأي الكاتب، إن كان لواشنطن شريك حقيقي في هذا العالم، فقد كان هذ الشريك هو لندن. وفي الوقت نفسه، يعتبر الكاتب ألمانيا الديمقراطية والناجحة حجر أساس للاستقرار الأوروبي والازدهار.

منذ ما يقرب عقدين من الزمن، ركزت واشنطن على قتال تنظيم «القاعدة» ثم «تنظيم الدولة الإسلامية ـ داعش» في أفغانستان وسورية والعراق واليمن. يعتقد الكاتب أنّ التطرف في شمال أفريقيا يبدو كأنه مسألة ثانوية، بينما لا يمكن اعتبارها كذلك. فالجزائر وليبيا وتونس جميعهم لديهم مشكلات إرهابية تؤثر على أوروبا بطرق مخيفة.

يذكّر كوك أنه في تسعينات القرن الماضي، قام إرهابيون جزائريون بتفجير مترو باريس، وخطفوا طائرة من الخطوط الفرنسية في محاولة لإجبار طاقم الطائرة على الاصطدام ببرج إيفل. ويضيف أنّ الهجمات الإرهابية الأحدث في أوروبا تعدّ شأناً محلية، لكن هذا لا يعني أنّ أوروبا آمنة من الإرهاب الآتي من شمال أفريقيا، حسب رأي الكاتب.

يشير كوك كذلك إلى ما حدث في تونس عام 2015 من قتل متطرفين لسياح أوروبيين على أحد الشواطئ وداخل متحف. ويعتقد كوك أنّ هذا هو السبب وراء تحالف الفرنسيين مع المفترض كونه أقوى رجل ليبي، الجنرال خليفة حفتر – والذي وعد بقتل المزيد من «الأشرار». يرى كوك أنه من المحتمل أن يكون الرئيس إيمانويل ماكرون على خطأ بخصوص تقييمه لقدرات حفتر، ومن المحتمل أيضاً أن تكون السياسة الفرنسية تزيد الأمور سوءاً، لكن شعوره بمنبع هذا التهديد يبدو واضحاً.

الجزائر وليبيا دولتان كبيرتان لهما حدود مع تشاد ومالي والنيجر، الذين يواجهون بدورهم عنفاً متطرفاً. لذلك تعدّ احتمالية ارتباط تلك المجموعات أو اندماجها في هذه المنطقة تحدياً أمنياً كبيراً بالنسبة للأوروبيين.

النفوذ الروسي في أفريقيا

يذكر الكاتب أنّ القوى الاستعمارية القديمة فرنسا وإيطاليا ليست وحدها النشيطة في شمال أفريقيا، إذ إنّ لروسيا أيضاً علاقة دفاع طويلة الأمد مع الجزائر، وقد أصبحت أكثر فعالية في ليبيا كذلك. ويرى كوك أنّ من الواجب أن يصبح الأمر واضحاً من الآن بأنّ الرئيس فلاديمير بوتين يرغب في إضعاف وتفكيك أوروبا.

إذ شكل بالفعل قوساً من النفوذ الروسي حول البحر المتوسط، يمتدّ من شمال أنقرة، ويمرّ بدمشق والقاهرة، ثم يتوجه غرباً حيث بنغازي، التي تقع تحت سيطرة حفتر حيث الكميات الضخمة من احتياطي النفط لدى ليبيا. يرى كوك أنّ بوتين ليس في حاجة إلى جمع حلفاء لمواجهة الولايات المتحدة نفسها، بل يحتاج فقط أن يوفر لروسيا قاعدةً يستطيع من خلالها أن يستمرّ في زرع الشقاق والارتباك في أوروبا.

ونظراً لمدى التوافق بين الطاقة والهجرة وطموحات روسيا في شمال أفريقيا لتهديد الاستقرار الأوروبي، يرى كوك أن ليس من الحكمة لصنّاع السياسة في الولايات المتحدة في أن يستمرّوا في التعاطي مع المنطقة باعتبارها منطقةً ثانوية. يعتقد كوك أيضاً أنّ السلام بين الفلسطينيين و»الإسرائيليين»، والديمقراطية في الشرق الأوسط، أموراً سيكون من الجيد إنجازها، لكن بالنظر إلى حدود النفوذ الأميركي، فالأمر الأكثر منطقية حسب رأي الكاتب هو أن تخصّص واشنطن مواردها لمناطق تهمّ المصالح الأميركية بصورة أكبر. وشمال أفريقيا منطقة مهمة في وجهة نظر الكاتب، وبحسب قوله فإنّ نظرة إلى الخريطة تكفي لإدراك ذلك».

»ساسة بوست»

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى