سيميائية علامات الترقيم في القصة القصيرة جدا

الدّكتورة درّيّة كمال فرحات

يُحكى عن رجل حُكم عليه بالإعدام في جريمة يُعتقد أنه اقترفها، وفي اليوم المقرّر إعدامه اكتشف القاضي أنّه بريء من الجريمة التي نُسبت إليه، فأمر كاتبه بأن يكتب خطاباً إلى مأمور السّجن. بدأ القاضي يملي نصّ الخطاب على كاتبه، فقال: اكتب يا رجل: «براءة فاصلة مستحيل الإعدام»، لكنّ الكاتب أخطأ في وضع الفاصلة في محلها الصّحيح فكتب «براءة مستحيل، الإعدام». ولما وصل الخطاب الى مأمور السّجن وقرأه فهم أن براءة هذا الرجل مستحيلة ويتوجّب إعدامه، ففعل. وعليه فهذه الفاصلة قد قتلت الرّجل. إنّ هذه الحكاية تضعنا أمام إشكالية مهمة تتعلّق بأهمية علامات الترقيم، فاختلاف موضع الفاصلة أدّى إلى تغيير الحكم.

وتذكّرتُ هذه الحكاية عندما قرأتُ قصة قصيرة جداً عبر جهاز الهاتف في موقع من مواقع التواصل الاجتماعيّ، وقد انتابني شعور بعدم وصول المراد للوهلة الأولى، لكن عندما عدتُ وقرأتُها من خلال إضافة بعض علامات الوقف والترقيم، وترك الفراغات المطلوبة في متنها، كانت الفكرة أوضح، فوصل المعنى المراد للمتلقي. أصل من ذلك إلى أهمية علامات الوقف والترقيم في البناء النّصيّ، فكيف إذا كان هذا النّصّ هو القصة القصيرة جدّاً التي تعتمد على التّكثيف والإيجاز؟

وقد عُرفتِ الكتابة منذ أقدم الحضارات، وتوالت النّصوص والكتابات، وتمّ تناقلها وتداولها عبر المشافهة حيناً، وعبر التّدوين حيناً آخر. وإذا كان الكلام مشافهة احتاجَ المرسِل والمرسَل إليه إلى نبرات معيّنة، ما يُسهِم في الفهم والإدراك، فلا بدّ من تمييز القول بين الاستفهام أو التّعجب أو الإخبار بما يقتضيه الحال.

ومن هنا جاءت علامات التّرقيم والوقف، لأنّها يسّرت القراءة ومنعت الخلط بين الجمل، لكنّ ذلك يتطلّب حسن استخدامها، ومعرفة مواضعها الصّحيحة، وإلّا أدّى ذلك إلى نتيجة عكسية، فلم تؤدِّ دورها المطلوب.

ويمكن تعريف علامات الترقيم على أنّها الرّموز التي يتمّ وضعها بين أجزاء الكلام من أجل تمييزها عن بعضها البعض، ولتحديد نبرة اللّهجة عند القراءة جهراً، وتنويع الصّوت بالكلام، ومعرفة مواضع الوصل من الوقف، حيث إنّ علامات التّرقيم تتّصل بالإملاء بشكل مباشر، فعندما نرى رسم الحروف في مواضع عدّة خاصّة الهمزّة يختلف إملائيّاً، بالإضافة الى اختلاف المعنى لو تمّت إساءة استخدام علامات التّرقيم.

علامات التّرقيم هي علامات ورموز متّفق عليها توضع في النّص المكتوب بهدف تنظيمه وتيسير قراءته وفهمه. وهي لا تعدّ حروفاً، كما أنّها غير منطوقة، ويمكن اختصار التّعريفات المتعدّدة حول ماهية علامات التّرقيم ودورها بأنّها رموز توضع بين أقسام الكلام، وتحدّد نبرة المتكلّم، وتساعد على التّنويع الصّوتي، وتنظّم عملية الكتابة، تعيين مواقع الوقف والابتداء والفصل. ومن الطّبيعيّ أن تختلف علامات التّرقيم باختلاف الّلغة، ولذلك فهي قابلة للتّغيير والتّطوّر.

انطلاقاً من ذلك فإنّ لعلامات الترقيم دوراً سيميائيّاً ودلاليّاً مهمّاً في الكتابة النّصيّة وفي بناء القصة القصيرة جدّاً، خصوصاً أنّها تُسهّل الفهم على القارئ، وتوضح المعنى المقصود، من خلال القراءة والتلفّظ بالعبارة، فعلامات التّرقيم خير وسيلة لإظهار الصّراحة وبيان الوضوح في الكلام المكتوب، لأنّه يدلّ النّاظر إلى تلك العلامات الاصطلاحيّة على العلاقات التي تربط أجزاء الكلام بعضها ببعض بوجه عام، وأجزاء كلّ جملة بوجه خاص. أو كما ذكر الدكتور عبد الستار بن محمد العوني في مقالته مقاربة تاريخية لعلامات الترقيم ، بأن الوقف ليس مستقلّاً، وإنّما هو من توابع التّفكير. أي: إنّ السّكتات المقرّرة بمقادير مضبوطة في مواضع معينة، ليست مجرد محطّات تنفسيّة بالمعنى البيولوجيّ للتّنفس، وإنّما في المقام الأوّل وقفات معنويّة. فالعبرة من النّاحية اللّغويّة ليست بأن يستعيدَ القارئ نفسَه، بل المهم أن يتعاطى القارئ السكتَ بمقاديرَ معلومة، وفي مواضعَ محددة من السلسلة المنطوقة رفعاً للَبس، وصوناً لمقصد المتكلّم عن التبدّل.

وبناءً على هذه الأهميّة لعلامات الوقف ودورها السّيميائيّ فإنّ استخدامها في القصة القصيرة جدّاً لا بدّ أن يؤدّي الغاية منها، وحكماً يرتبط ذلك بمواضع استخدام هذه العلامات، وقد تختلف هذه المواضع من لغة إلى لغة حكماً، فهي ترتبط بطبيعة كل لغة، واللغة كائن حيّ متطوّر، فلا بدّ أن تؤثّر طبيعة اللّغة على هذه العلامات، فعلامات الوقف والتّرقيم ليست علامات هامشيّة، إنّما لها أهمية في التّدليل النّصيّ.

وإذا كان المجال لا يتّسع لتفصيل مواضع علامات الوقف والتّرقيم، فسنكتفي بذكر نماذج منها، خصوصاً أنّ تبيان ذلك يتطلّب التّطبيق على النصّ الأدبيّ، فإذا انطلقنا من النقطة التي توضع في نهاية الجملة التّامة المعنى، فإنّها فضاء الاكتمال والانتهاء، وهي حدّ من الحدود الرّابطة بين جمل النّص اتّساقاً. أمّا الفاصلة التي تتعدّد مواضعها فهي تدلّ على التّنوّع والتّعدّد والاختلاف. وتستعمل علامة القوسان لما يزيده المحقّق للكتب القديمة من عنده لاقتضاء السّياق أو تصحيح النّص، أو ما يضيفه من مصدر آخر، ولا بد للإضافة أن تكون نافعة، وإلا لم تصحّ، ويُعدّ القوسان علامة مهمة في القصة القصيرة جدّاً، فهي تأتي في موضع الدّلالة على الإحالة والتّناصّ واستدعاء المعرفة الخلفيّة، أو التأشير على الشّرح والتّعليق والتّوضيح والتّدقيق، والتّمييز والتّخصيص والمفارقة والإيحاء.

ولعلامة التّعجب! دور بتلوين النّصّ بدلالات مختلفة، وتعبّر عن الانفعالات النفسيّة: التّعجب، والحزن، والدّعاء، والدّهشة، والاستغاثة، والتّرجي، والتّمني، والتّأسّف وغيرها، ومن المهم أن ترفق هذه العلامة بنبرة التّنغيم الصّوتيّ والفونيميّ والإيقاعيّ، وتحيل هذه العلامة على فضاء التوتر والتوقيع والدرامية. أمّا علامة الاستفهام فهي علامة التّرفّع والاستعلاء الأفقي، ورمز للكشف والمعرفة.

أمّا العلامة الأكثر استخداماً في القصة القصيرة جدّاً، فهي علامة الحذف أو نقط الاختصار أو الإضمار … ، فهي من اسمها تدلّ على ما يحمله النّصّ الوجيز من تأويلات وتخييلات. فهذه العلامة مكوّن أساسيّ يحقّق التّواصل مع القارئ أو المتلقي، قصد دفعه إلى تشغيل مخيّلته وعقله وذهنه لملء الفراغات البيضاء، وتأويل ما يمكن تأويله لأن توضيح دلالات المضامين ومقصديّاتها لا يمكن توضيحها أكثر من اللازم.

والدخول في عوالم النّصّوص يفتح لنا الكثير من التحليل والتّأويل وفهم المضمون استناداً إلى ما فيه من خصائص وتقنيات وأساليب، وما يعمّق هذا فهمنا للدّور الذي تؤدّيه علامات الوقف والتّرقيم من دلالات سيميائيّة عدّة، لغة وأيقوناً ورمزاً وإشارة، فهي ترتبط بسياق النّصّ ذهنيّاً ووجدانيّاً وحركيّاً. ومن هنا ضرورة الاهتمام بالدّراسات النّقديّة والأدبيّة القائمة على مقاربة علامات الوقف والتّرقيم، وهو ما يعدّ قليلاً في الدّارسات الغربيّة والعربيّة معاً.

عضو ملتقى الأدبي الوجيز

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى