ثلاثة توائم بين الوحدة والاستقلال والتفكك والانتداب

البروفسور فريد البستاني

يتشكل من السياسة والاقتصاد والإدارة ثلاثة توائم تقوم عليها ركائز الدولة، ويؤدي النظر إلى حال كلّ منها إلى استخلاص حال الآخر، ويبدو الرهان على معالجة مشاكل أيّ منها دون معالجة مشاكل الآخر وهما، خصوصاً، عندما تكون المشاكل من النوع الذي يواجهه لبنان ذات طابع بنيوي، تحتاج إلى علاجات جذرية وقد تخطت مرحلة العلاجات الموضعيّة والمسكنات، وتصبح التوأمة أشد وضوحاً في المشكلة والعلاج عندما نتناول قدرة كل من مساحات السياسة والاقتصاد والإدارة على التماسك أو على ممارسة الاستقلال. وهما ركيزة أي قدرة على النهوض، ومصدر كل قوة، فبلا جسد متماسك لا قوة وبلا استقلال ولا قرار. ويبدو لنا مباشرة كيف يؤدي التفكك إلى إضعاف القرار المستقل واستدراج التدخلات، بينما يؤدي التماسك إلى حماية الاستقلال كشرط لحرية القرار.

في السياسة لا يمكن لأحد إنكار حقيقة حال الفدرلة التي تسيطر على تركيبة الدولة ولو بصورة غير معلنة، حيث التداخل بين الوطني والطائفي يقوم على تسوية عبر عنها اتفاق الطائف، ومن قبله الصيغة والميثاق، باعتبار التنظيم الطائفي للدولة ومؤسساتها مصدر الاطمئنان بين مكوّناتها، وبقدر ما أثبتت هذه المعادلة صحتها في تحقيق هذا الهدف، فقد منعت قيام دولة القانون الذي يتساوى الجميع أمامه، وفقاً لقاعدة المواطنة التي يقوم عليها كل قانون، والمواطنة لا تتعايش مع جعل العلاقة بين الدولة والمواطن تمرّ بوسيط هو الطائفة، التي يشكل الانتماء إليها مصدر اطمئنان في التوظيف والخدمات ويشكّل الاحتماء بها ملاذاً في الأزمات. وهذا النوع من الفدرالية غير المعلنة ينسحب بصورة مباشرة على كثير من أوجه الحياة السياسية فتصير كل مؤسسة عامة محسوبة على طائفة، ويصير قانون الانتخاب مكرّساً لتتويج زعامات للطوائف، وتتحول التعيينات في الوظائف الأساسية في الدولة محكومة بتوازنات طائفية ينتج عنها تحول ولاء الكثير من قادة هذه المؤسسات لزعماء طوائفهم أكثر من الولاء لهرمية الأداء المؤسسي في الدولة.

هذا التفكك السياسي الناتج عن الطائفية لا يعني أن إلغاءها هو الحل السحري في بلد يشعر كل من فيه أنه أقلية تعيش قلقاً وجودياً، في زمن صحوة الأقليات وتغلغل التطرّف في الأكثريات في منطقة تعصف بها رياح التفكك والعنف، وما تعنيه رؤية مخاطر التفكك اللاحق بالدولة بنتيجة التنظيم الطائفي القول بأن البحث يجب أن يبدأ من هنا، من كيفية الجمع بين الحاجة للطمأنينة التي يوفرها التنظيم الطائفي، والحاجة للمواطنة التي يحتاجها بناء الدولة، خصوصاً أن دولة الجماعات لا يمكن أن تكون مستقلة بقرارها وكل جماعة فيها تقيم علاقاتها بالخارج دون المرور بالدولة ومؤسساتها، وتستدرج هذا الخارج في لحظات الأزمات أملاً بزيادة المكاسب أو طلباً لتفادي الخسائر. فالدولة الوطنية هي دولة المواطنة، بعدما شهدنا ونشهد في دولة الطوائف ما نسمّيه بحروب الآخرين على أرضنا، وهي حروبنا نحن التي خضناها بأرزاقنا وأرواح أبنائنا وبدمائنا بوهم تحقيق انتصار هنا أو تجنّب هزيمة هناك. فالاستقلال والوحدة توأم كما التفكّك والتبعيّة توأم.

حال الاقتصاد يشبه كثيراً حال الدولة، حيث تتضخّم قطاعات وتضمر قطاعات ويفتقد جسد الاقتصاد والمال للتناسق والانسجام، فالضمور في القطاعات الاقتصادية الرئيسية التي يقوم عليها الازدهار يرافقه توسّع هائل في القطاع العام الذي تورم وتضخم بصورة عجائبية تفيض عن حاجة الدولة والاقتصاد، وعن قدرتهما على تأمين حاجات هذا القطاع، مقابل تدنٍّ هائل في مستوى الخدمات، وشكوى عامة من الفساد والفوضى والتسيّب، وبالتوازي نما قطاع المصارف بصورة شكلت مصدر ضمان للوضع المالي بقدراته المالية الكبيرة التي تعادل وحدها ثلاثة أضعاف حجم الاقتصاد الوطني، لكن الاقتصاد لا يستفيد إلا من نسبة ضئيلة من قدرات القطاع المصرفي المكرّسة بصورة رئيسيّة لخدمة دين الدولة وتمويل عجزها بفوائد مرتفعة لا يستطيع القطاع الاقتصادي الاستدانة بسقوفها العالية، بينما زادت موجودات مصرف لبنان وشكلت مصدر أمان لسعر صرف الليرة بحيث صارت تعادل وحدها كل حجم الاقتصاد، لكن في دولة ترزح تحت الديون، تبحث عن مصادر لتمويل عجزها، وسداد خدمة ديونها بديون جديدة. وهذا التفكك وفقدان الانسجام والتناسق بين مكونات العملية الاقتصادية والمالية وتفاعل مقدراتها وأجزائها، هو الأساس أيضاً في فقدان القرار المستقل في القدرة على معالجة أزماتنا الاقتصادية والمالية، فقد تحول الدين المتضخم إلى مصدر تأثير على الاستقلال المالي، حيث صار لبنان رهينة للخارج وقرار الخارج بنتيجة البحث عن ديون بفوائد منخفضة من جهة والوقوع في لوائح التصنيف الائتماني من جهة أخرى، التي تعدها المؤسسات المالية الدولية للدول التي تقع تحت عبء ديون كبيرة تتخطى حجم اقتصادها كحال لبنان.

أما في الإدارة، فقد تحولت المؤسسات التي بنيت في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن الماضي، إلى أطر عاجزة عن استيعاب تغير الحاجات التي فرضها تطور الخدمات والاقتصاد والحاجات الجديدة، وبدلاً من صياغة هيكلية عصرية للإدارة، نشأت بنى وهياكل عشوائية وفوضوية، لا يجمعها رابط وكثير منها لا يخضع لأي نوع من الرقابة المالية والإدارية فتحوّلت إلى جزر متباعدة متنافرة تشبه فدرالية الطوائف التي تحكم السياسة، وصار التوظيف من خارج القانون أمراً عادياً، وتغلغل فيها الفساد حتى نخرها كالسوس، وكما شكّل التفكك سبباً للتبعية في السياسة والاقتصاد تحول التفكك في الإدارة إلى مدخل لمرجعيات بديلة للمرجعية الهرمية الطبيعية، وصارت المؤسسات الإدارية شكلاً ظاهرياً لدولة وامتداداً عميقاً للفدرالية غير المعلنة بين مرجعيات الطوائف.

الحقيقة الصعبة التي بات علينا إدراكها هي أنه بقدر ما نحقق من الوحدة نحقق من الاستقلال في قراراتنا، وبقدر ما تبدو الوحدة مرتبطة بإزالة الفوارق بين الطوائف والمؤسسات الإدارية والقطاعات الاقتصادية، تبدو إزالة الفوارق بصورة كاملة مخاطرة مستحيلة في ظل الخصوصيات التي تدفع بكل مكونات المجتمع كما الاقتصاد كما الإدارة، إلى التمسك بما تعتبره مكاسبها الخاصة أو ما تسمّيه بخصوصياتها وتصنع لها نظريات تناسب الدعوة لعدم المساس بها، واعتبار أي اقتراب منها تهديداً وجودياً يثير القلق والخوف والذعر، ولأن الحلول المستدامة هي حلول تنتج بالوعي والتوافق فإن الحل المتوازن بين الخصوصيات والحاجة للوحدة، يجب أن يأتي رضائياً بين الطوائف وبين قطاعات الاقتصاد ومكوّنات الإدارة، بنتيجة الاقتناع باستحالة الاستمرار على ما كانت عليه الحال من قبل، ما يعني الحاجة لحوار صادق على كل المستويات، يجيب عن سؤال حول طبيعة الحدود التي لا تضرّ من الخصوصيات فيحافظ عليها، وعن نوعية الفوارق الضارة فيزيلها، ليحقق مقداراً من الوحدة والاستقلال هو الحاجة الضرورية لبناء الدولة، ويحتمل درجة من التمايزات والخصوصيات تؤمن الاطمئنان والرضا، فيتقبل ما يترتب على هذه الخصوصيات من تفاعل مع الخارج ليس ممكناً تفاديه في زمن بات العالم كله يتأثر ويؤثر ببعضه بعضاً سياسياً واقتصادياً، وتتوسع فيه الروابط بين الجماعات الطائفية والعرقية والأتنية عبر الحدود، وبين مرجعياتها ومكوناتها داخل الحدود، لكن دون تهديد سيادة الدول وهرمية مؤسساتها.

نائب الشوف في مجلس النواب اللبناني.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى