معركة الحجّار الصعبة…!

أيمن عبيد

مع كل إطلالة له، دائماً ما ينجح في إطلاق نوبة صحيان، وفضح سوءات «لصوص الهيكل» أولئك الذين تاجروا وشوّهوا وتآمروا، في مدى سنوات عجاف، على قصف رادار الذائقة المصرية، بقذائف من القبح الثقيل، وإعطاب العدد الكبير من أنتيناته اللاقطة لإشعارات الحُسن والرقي الإبداعي، حتى أوشك أن يبدو كشجرة خريفية يابسة، تصم أذنيها عن نداءات الربيع! فعبر تمايز ورسالية طرحه الغنائي، مستولياً على مسامع وأفئدة «الذويقة» أينما وجدوا، يقف علي الحجّار، المتصدّر، وبامتياز، على أرض المحروسة، خطاً غنائياً واضحاً، كوضوح الشمس في رابعة النهار، لا يساوم ولا يهادن في انتسابه إلى فضاء الغناء الأصيل والملتزم في معرض تعريفه لماهية «المطرب الملتزم»، لا يحبذ الحجار إسناده بالضرورة إلى حامل سياسي أو ايديولوجي، يرى أنه غالباً ما يحصر صاحبه، بإطار فنّي ضيق، مؤكداً أن التزامه الغنائي، وبمعزل عن أي مرجعيّات أو تصنيفات سياسية مباشرة، إنما ينبع، في المقام الأول، من احترام الذات، معايشة نبض المجتمع عن كثب، وإعمال النظر الموسيقي والفني والوجداني، في صياغة المنتج والأسلوب الغنائي ، ويجهر بالذود عنه، قيماً وأسلوباً وهوية، في ظلّ مناخات شديدة الوطأة، ومقاييس بالغة السوء، ما عادت تلقي بالاً أو تقيم وزناً لهؤلاء المتفانين، بكرة وأصيلاً، في حراسة بستان الغناء العربي، وصيانته أصولاً وقواعد وشدواً، كما يجب أن يكون..

يقف على خطّ نقيض من سياسات التخريب الممنهج، وديناصورية المعادلة التجارية الحاكمة، المستعبِدة بكسر الباء ، والمستحكمة في مفاصل الساحة الغنائية، متحدّياً، بعناد وصلابة المؤمن بعدالة قضيته، طوق المعادلة المستبدة، وأوهام حصره بين أحد خيارين، أو «حصارين» إما الخروج من المشهد كليّاً والتزام الصمت الغنائي، رفضاً لواقع بائس يعسّر التأقلم معه، كما فعل كثيرون غيره من قبل، أو الرضوخ لمعايير سوق غنائية معتورة، والذوبان حدّ التلاشي في ما يعرض عليه من إغراءات مادية، لسوقه إلى «معالف» شركات الإنتاج الاستهلاكي، والانخراط في طبختها السقيمة على حساب النوعية والهدف والرسالة.

فعند كل محطة غنائية للحجّار، أمسية شهرية يحييها على مسرح ساقية الصاوي، يستعيد خلالها بعضاً من أجمل قديمه والجديد، مع تركيز خاص على مختارات من مقدماته الغنائية المحفورة في جدارالذاكرة، لعدد مميّز من أعمال الدراما المصرية، فضلاً عن استعادات نوستالجية لأصوات من زمن الطرب الجميل ، يسير صاحب «الأيام»، «الشراع المكسور»، «عابر سبيل»، وغيرها من علامات على طريق الأغنية المصرية الرصينة والوضيئة، صوتاً ولحناً وكلمات، على خطّين متوازيين لا يفترقان مصارعة غول الاستسهال، كي لا نقول الابتذال الغنائي، المتوالد كالفطر، ومعاجلته بلكمات قاسية ليدميه فيقصيه عن الحلبة، ولو إلى حين..

والتذكير دائماً بضرورة العودة إلى جادة الصواب. إلى مشروطيات «أصولية» حاكمة حرفة الغناء، لا يمكن بأي حال القفز فوقها، والنظر إليها باعتبارها، على ما يحلو للبعض، من مخلّفات ماضٍ طواه الزمن في محفظة النسيان، رافعاً، باستعاداته الدورية لرموز غنائية من زمن «الأصول»، آذان الحنين إلى مرحلة فارقة شهدت الفترة ما بين 1950-1975 ازدهاراً غير مسبوق، طال مختلف مكونات العملية الموسيقيّة والغنائية في مصر. وظهر جيل لم يتكرر من الملحنين والشعراء والمطربين، أنشأ عبر مردود غنيّ وحافل ما يمكن اعتباره آية الإبداع المصري في صناعة اللحن، الكلمة، والطرب ، يتفق نقاد ومؤرخون من منابت نقديّة وفكريّة شتى، على استثنائية حصادها الذهبي لما أفرزته من قفزة نوعية في مسار الأغنية المصرية، على اختلاف تنوّعاتها، مشكَلة، وأنشطة فنية وثقافية أخرى، كالسينما والمسرح والأدب، ما درج المصريون لسنوات طوال على تسميته، فخراً، بقوة مصر الناعمة هي التي سيتعذر صمودها، في ما بعد، أمام تحولات عاصفة، هبّت على وقع ارتدادات ما يُعرف بالانفتاح الاقتصادي، لتنخر، وبقسوة، في موازين الاجتماع المصري، مخلًفة، في ما خلفته من تركة ثقيلة، شروخاً عميقة في مرآة الفن والوجدان والتذوّق الحميد، فطغت على السطح ملوثات سمعية وبصرية، وراجت كما الطاعون المستفحل، بفعل انقلاب منظومة السلوك والقيم وطقس الممارسة اليومية، معادلات وتصورات واتجاهات، اختلطت معها وفيها الألوان والأحكام والأذواق، فإذا بالغثّ ينقلب سميناً.. والحصاد الذهبي، يستحيل غثاً!

مع ذلك، وبالرغم من قتامة المشهد العام، وتراكمات ما جرى، على وجه أخص، في نهر الغناء من مياه عكورة. ما أصاب الحجار يأساً، ولا كفّ عن صوغ منجزه الغنائي، بعلامة التميّز التي وسمته، إن على مستوى التنفيذ الموسيقي الحديث المستفيد، إيجاباً، من التقنيات الجديدة، أو على صعيد الأطروحة الموسيقيّة لملحنين اجتهدوا ناصر عبد الرحمن، وأحمد الحجار، مثالاً ، تفاعلاً مع خامة صوته الوثيق، ذي الأبعاد والطبقات الصوتية الواسعة والممتدة، على دفء وطلاوة وحُسن انتقائه الكلمة الشعرية، فجاءت ألحانهم كسراً لقوالب وأشكال وصياغات لحنية، كثيراً ما نامت على سرر التنميط، ومخاصمة روح الإلهام والابتكار.. وكانت بالنسبة إليه خير زاد ورفيق على سكة إخلاصه المديد، وتفانيه، بلا هوادة، كصاحب رسالة، ملكت عليه لبَه، في إطراب الأسماع ، ودق أجراس الأمل، بعودة الموازين يوماً إلى صحيحها، وشيوع أنوار الأصيل من الغناء .. ولو طال الظلام!

لا يفتّ في عضد إصراره على المضيَ في ما اختطه لنفسه حتى النهاية، ما يمرّر إليه، بين حين وآخر، من نصائح مفخخة، بحتمية مجاراة السائد، وتقريع أبواق إعلامية موحولة في بازارات البيع والشراء، واحتراق أزهار غنائية على درب الجلجلة، كانت تبشّر بألق عظيم يصعب على قارئ التحوّلات التي عصفت بمسير ومصير الأغنية المصرية، في الثلاثين عاماً الأخيرة، ألاَ يتوقف ملياً حيال كوكبة واعدة، سقطت على مذبح رفضها تقديم أي تنازلات لجهة قناعاتها الغنائية واستمرت قابضة على جمر احترامها لذاتها وفنها وهويتها، فدفعت، جراء ذلك، ثمناً باهظاً من الحصار والإبعاد، والتعتيم. إلى أن اختفت تماماً، وذهبت أسماؤها أدراج الرياح. ويكفي أن نتذكر سوزان عطية ذات يوم، رأى فيها عبد الوهاب خليفة لأم كلثوم ، توفيق فريد، زينب يونس، إيمان الطوخي، وغيرهم، لنجدنا أمام مرثية كبرى يعكسها حجم السؤال الحزين، والمدوي، لماذا، ولمصلحة مَن، وبأي ذنب، أسكتت هذه الأصوات؟ ، فضلاً عن أجواء من العزلة والانكفاء، تسود لدى الشريحة الأكبر من جمهور التذوق الرفيع، المازال وفياً حفياً برونق الغناء وجمالياته، فتصرفه عن الأخذ بوسائل فاعلة الأثر، وفي المتناول، يمكن أن تحيله سريعاً، إذا ما أحسن تثميرها، رقماً صعباً لا يسهل تجاوزه. من ذلك مثلاً، التوحّد في كتلة «افتراضية» وازنة، تتوسّل مواقع التواصل الاجتماعي، ومنصات الإعلام البديل، سلاحاً ماضياً لتعرية وتشيين شبكات ومصالح الضالعين، تنفيذاً واستثماراً، في إذاعة وترويج وجوه ومواد، تنتسب سفاحاً إلى حقل الغناء.

كما، وبالتوازي، مواكبة ما يصدر، ولو على ندرة وخفر، من نتاج عالي المستوى، والتعريف به، وتداوله على أوسع نطاق إلكتروني، ودعم أصحابه، معنوياً وأدبياً، أقله من أجل المساهمة، بالقدر المتاح، في الإضاءة على منجزهم، وردّ الحياة إلى سنابل الإبداع والسمو والأصالة، المهدورة تحت سنابك القبح المتفشّي. وهل ثمّة مَن أولى بالدعم والتكريم المباشرين، الآن وليس غداً، من صاحب الدعوة الصارخة لـ «لمّ الشمل» كلمات جمال بخيت. ألحان فاروق الشرنوبي. 2014 ، في زمن التقسيم والتشتيت والتفريق المصري؟

يُحسَب للحجار، بين ما يحسب له، استشرافه الباكر، منذ انبثاقته الأولى، على يد العبقري الراحل بليغ حمدي، في رائعته «على قد ما حبينا» كلمات عبد الرحيم منصور. 1977 ، وعورة خياره الغنائي، وأن عليه خوض نزال قاسٍ، في وسط كان، وقت ظهوره، ما يزال يحتضن قامات من العيار الثقيل، لتحقيق هدفين رئيسيين لم يحد عنهما ترسيم هوية غنائية تتساوق ونظرته الثقافية والاجتماعية لوظيفة الغناء كرافعة لقيم الوعي والجمال والتقدّم، المفتوحة على آفاق رحيبة، وكسب تحدّي الاستقلال الإبداعي، بعيداً من إملاءات «السوق» وقوانينها الشوهاء. وهو ما دفع به لاحقاً، وقد أصاب هدفه الأول بنجاح موصوف، لتحمل عناء إصداره النسبة الغالبة من ألبوماته الغنائية على نفقته الخاصة، تحصيناً لحرية القرار والاختيار، ودفعاً لما يفرض عليه من تنازلات فنية، تأباها سويته الإبداعية.

أربعون عاماً خلت، ولا يزال نجم «رحلة أبو العلا البشري» تلفزيونياً، خطَ الحجار بعض التجارب التمثيلية. لعب الغناء فيها دوراً وظيفياً في التعبيرعن نبض النص المتلفز ومنها «رحلة أبو العلا» المصنف ضمن كلاسيكيات الدراما المصرية. كتابة أسامة أنور عكاشة. إخراج محمد فاضل. 1986 ، صادحاً على مآذن التغريد البهي. تهاوت أمامه جدر التحديات واحداً بعد آخر. ما رفع يوماً راية بيضاء، ولا بذل قرابين الخضوع، على جري المعتاد، في فلك المعادلة «السوقية» الحاكمة.

عبثاً، أرادوه أقرب ما يكون إلى أمثولة سيزيفية، لكل متمرّد على السياق المرسوم. حاصروه بين خيارات مرّة. ألقوا عليه بالحرم، فإذا به، من علٍ، يلقي بالصخرة على رؤوسهم، ويحث الخطى صعوداً، متأبطاً جسارة الموقف، ونبل حامل الأحلام البيضاء في زمن الكوابيس السوداء، ليتربع على قمة خيار غنائي، ما برح يسبح في طياته، عكس التيار المزري، ويخوض وحيداً، أو يكاد، غمار معركة جسورة، في محاولة مستمرة، ومستميتة، لاستنقاذ الذائقة المصرية من مخالب الغرق الوشيك والحيتان المتربّصون بها نهشاً من زوايا أربع. وهي بلا شك، وبكل حسابات الواقع المصري الملبّد بغيوم واختلالات وأمراض جهاز القيم المتصدَع، واختناق أفق التغيير، وتجذر قوى الابتذال المهيمنة على تشكيل الذوق العام، تبدو معركة صعبة، بل شرسة، وفي مكان ما، ربما تقترب من حدود المستحيل!

ففي زمن حمو بيكا ومجدي شطة وعبده سيكا، وسواهم من العابثين بخريطة الغناء، ليلاً ونهاراً، الناهشين ذهاباً وإياباً، في وجدان الوطن المعتل، ها هو، وبكل أسف ولوعة، غول القبح المتغول، يتسنّم، أخيراً، رأس جبل شاهق، باسطاً قبضته على كل صعيد. يتلو، بصوت كأنه فحيح أفعى تقبض على عنق الحاضر والمستقبل، بيان انقلابه الذميم على كل ما هو جميل في بلاد الأهرامات. قناديل مضيئة تنطفئ. وجوه تنضح عتامة تتسيد قلب المشهد وزواياه، فتمسك بخناق الإذاعات والشاشات والمنابر وساحات الفضاء الجمعي. سيف الإقصاء المسموم يشهر، بغلظة وصفاقة، بوجه ما تبقى من حساسيات إبداعية مغايرة ومستقلة، لطالما حافظت، ما أمكن لها الحفاظ، رغم ما تكابده من تضييق وتهميش وتعسير، على ديمومة خط الإبداع، المشبع أصالة وثقافة وتنويراً وحرية..

وحمايته من خطر السقوط نهائياً أمام غزوات متلاحقة، لجيش من جراد غوغائيّ مذموم، يتفجّر أفواجاً من ثكنات خربة، ليعيث تكميماً وتقزيماً وتعتيماً، بسموات أم الدنيا، وذائقتها الجمعية المستباحة، بلا شفقة، والملقاة، بغير اكتراث، على قارعة سبيل مظلم يزرع الغول، وجراده المذموم، أرض الفراعنة، يابسة ومياهاً، لتأبيده قدراً وخياراً وطريقاً وحيداً.. فهل ينجح؟

كاتب مصري

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى