تصعيد النزاعات شمال شرق سورية.. عينُ أنقرة ومِخرز دمشق

أمجد إسماعيل الآغا

كثيرة هي الخيبات والانكسارات السياسية والعسكرية التي مُني بها رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان في سورية، خاصة تلك الجُزئية المُتعلقة بالدعم الأميركي للكرد، حيث بات أردوغان بين فكي كماشة، فمن جهة أسهم الدعم الأميركي للكرد بتصدّع العلاقة الاستراتيجية بين واشنطن وأنقرة، ومن جهة أخرى فإنّ القلق من احتمال نقل الأسلحة الكردية إلى الداخل التركي، يُشكل في تداعياته تهديداً على الصُعد كافة، لا سيما حيال مستقبل أردوغان السياسي ومشروعه الإيديولوجي، تلك المعطيات قد فرضت سياقاً سياسياً ذا منهج واضح لجهة الحرب على سورية، وكيفية إدارة الصراع في شمال شرق سورية وبلورة الخطط الاستراتيجية، فضلاً عن جملة الاصطفافات التي أبرزتها نتائج الميدان السوري، وضمن المعادلات الجديدة التي جاءت وفق ما يُراد له أن يكون بحثاً عن مكاسب سياسية شرق سورية، أعلنها أردوغان صراحةً نيته شن حملة عسكرية على مناطق الكرد، وذلك حُكماً ضمن ضوء أخضر أميركي، يُجيز لأنقرة القيام بعمليات تشمل نطاقاً جُغرافياً محدوداً ضمن إطار زمني محدّد، وفي جانب آخر فإنّ التماهي التركي مع الفصائل الإرهابية في إدلب لجهة رفضهم الولوج داخل أبجديات سوتشي، والانجرار وراء التصعيد العسكري مع الجيش السوري وحلفائه، يُفصح حقيقةً عن النوايا التركية شرقي سورية، وعليه فقد بات الشرق السوري بمُجمله مشروعاً أردوغانياً سيكون بمثابة الرمق الأخير للحُلم العثماني، إذ لا طائل من مناورات أردوغان التي يحاول من خلالها استجداء الأميركي وجذبه إلى بوتقة خياراته، خاصة أنّ ترامب وأردوغان يعلمان في قرارة نفسيهما أنّ الدولة السورية وجيشها سيكونان بمثابة تسونامي عسكري، لكن لا ضير من الاستمرار في تعطيل انطلاقته والعمل معاً وفق مبادئ المناورات السياسية والعسكرية، تمهيداً للوصول لظروف سياسية تسمح للطرفين الأميركي والتركي بجني مكاسب سياسية جُلها ضمن إطار الأوهام.

الدوافع والهواجس التركية تسير بنسق مُتخبّط، فالقلق التركي منبعه من الموقف الأميركي المتذبذب تجاه الملف السوري، والواضح أنّ واشنطن لا تزال تمسك عصا التحوّلات والاصطفافات من وسطها، فلا تُفصح صراحة عن توجهاتها حيال ملفي إدلب وشرق الفرات، الأمر الذي يُقلق تركيا ويجعلها تبحث عن معادلات تُحقق لها طمأنينة ظرفية، فالمعادلة الأميركية التي جعلت من الكرد حصان طروادة، يُزجّ به في أيّ مناخ سياسي في الشرق السوري، لا تتوافق مع أنقرة ومصالحها وتطلعاتها، خاصة أنّ أردوغان قد رسم مُخططه وفق أبجديات أجداده العثمانيين، وبالتوافق مع واشنطن، لكن التسويف الأميركي في تنفيذ العديد من الاتفاقات وفي مقدّمتها اتفاق منبج بين واشنطن وأنقرة، زاد من إحباط أردوغان وأدخله في دوار سياسي، إضافة إلى أنّ أردوغان لم يعد في جعبته الكثير من الأوراق الرابحة سياسياً، ويسابق التحركات العسكرية السورية الرامية لإبطال مفاعيل التحركات الأميركية والتركية معاً، وبالتالي باتت تركيا تخشى من تفاقم التطورات، وخروجها عن السيطرة على الصعيدين السياسي والعسكري، وذلك وفق محاور ثلاثة:

الأول خشية أنقرة أن تنجرّ إلى مواجهة قد تكون عسكرية مع واشنطن شرق الفرات، الأمر الذي سيزيد من توتر العلاقات بين الحليفين الأطلسيين، وضمن هذه الجزئية، فقد بات أردوغان يُدرك أنّ الجيش السوري يملك من القوة ما يُمكنه من الوثب سريعاً نحو شرق الفرات، أو أقله حشد قوات تكون فاتحة لأبواب شرق الفرات على مصراعيها.

الثاني خشية أنقرة من تعاظم قوة الكرد، تأتي الخشية التركية وفق جزئيتين، الأولى تهديد الأمن القومي التركي، والثانية تهيئة الأسباب لإعلان دولة الكرد بما يُصيب مقتلاً في الجسد التركي، من هنا يسعى أردوغان لاحتواء الخطر الكردي وضعضعة تحالفهم مع الأميركي، بالاعتماد على النهج التصعيدي سواء السياسي أو العسكري المحدود.

الثالث ملف إدلب وتداعياته الضاغطة لجهة تنفيذ بنود اتفاق سوتشي، بات في مراحله الأخيرة ولا مبرّر لأيّ مناورة تركية، فالرهان على تعطيل معركة إدلب أو تأخيرها، أو حتى التأثير على أيّ نتائج تُسفر عن سيطرة الجيش السوري على إدلب، بات بعيداً عن إمكانية التحقق، خاصة انّ روسيا حسمت أمرها ومثلها فعلت إيران، وبالتالي باتت تركيا تُدرك أنّ ساعة الحقيقة السورية قد اقتربت لإعلان إدلب سوريةً خالصةً من الإرهاب التركي.

ضمن هذه المحاور، الواضح أنّ تركيا في أزمة سياسية وعسكرية، والواضح أيضاً أنّ أنقرة تستعجل حسم مصير منطقة شرقي نهر الفرات، سلماً أو حرباً، سلماً عبر تفاهمات مع واشنطن لصوغ معادلات جديدة تقضي بانسحاب كامل للكرد من الشريط الحدودي، أو حرباً عبر عملية عسكرية واسعة تُفضي إلى إنهاء التهديدات الكردية إزاء الأمن القومي التركي، فضلاً عن جُملة واسعة من التهديدات التي لا تستشعرها تركيا قادمة من إرهابيّي النصرة في إدلب، خاصة إذا ما تمّ رفع الغطاء التركي عنهم ضمن أيّ تفاهمات على أسس الحلّ السياسي في سورية، وما بين شرق الفرات وإدلب هناك مُعضلة قد لا يقوى أردوغان على حلها أو تفكيك مضامينها، فالجيش السوري بات بعد مراكمة كافة البيانات السياسية والعسكرية قاب قوسين وأدنى من تحرير الجغرافيا السورية، ووضع فرضيات الأمر الواقع وسيناريوات الحسم موضع التنفيذ العسكري.

لعلّ التحركات التركية والتصعيد المُتعمّد شرق سورية، يأتي ترجمة لتقدّم الجيش السوري في ريفي حماة وإدلب، فـ تركيا الباحثة عن ترجمة حُلمها عبر اقتطاع أجزاء من الجغرافية السورية، حاولت مراراً الضغط على روسيا من أجل إيقاف تقدّم الجيش السوري تجاه إدلب، وفرض هدنة بُغية رصّ صفوف الفصائل الإرهابية المشرذمة، ورغم ذلك، فقد التزم الجيش السوري بكافة الهدن، لكن الممارسات التركية المتوافقة مع نهج الفصائل الإرهابية، سعت لإبقاء التصعيد سيد الموقف في تلك الجبهات، واليوم تعمّدت تركيا إفشال الهدنة الأخيرة التي جاءت عُقب اجتماع أستانة الثالث عشر، لذلك يمكن القول إنّ تداعيات الممارسات التركية قد أخرجت الوقائع عن سيطرة أنقرة، التي كانت تعتبر إدلب هدفاً استراتيجياً لها لموقعها الجغرافي وقربها من ولاية هاتاي التركية من ناحية الشمال، وربطها بين منطقة سيطرة الكرد والحدود التركية.

في المحصلة، تصعيد النزاعات في شمال شرق سورية وضمن أيّ سيناريوات، سواء لجهة الصراع التركي مع الكرد، أو لجهة التجاذبات الأميركية التركية المُفتعلة ضمن مسارح السياسية، بات العمل العسكري السوري أمراً واقعاً لا مفرّ منه، لذلك، فالسيطرة على إدلب سيفتح مستقبل المنطقة الشرقية بالكامل، فالتمركز الأميركي شرق الفرات، وكذا في التنف، بات محور الإستراتيجية السورية، الأمر الذي سيدفع بالعملية السياسية السورية وفق معادلات دمشق إلى بوتقة التنفيذ، من هنا تدرك أنقرة وواشنطن بأنّ عليهم ترتيب الأوراق السياسية في الشرق السوري، وممارسة أقسى الضغوط على حلفاء سورية، والعمل بسرعة سياسية وعسكرية بُغية فرض وقائع جديدة تُمكنهم من حصد أيّ مكاسب تُبقيهم ضمن جدولة الحلّ السياسي في سورية، فالأعين الأميركية والتركية المتربصة بالشرق السوري، لن تجد إلا مخرز الدولة السورية وجيشها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى