اللاجئون الفلسطينيون في لبنان… رحلة الألم والشقاء

سمير الشريف

منذ مطلع القرن الماضي والمنطقة العربية تعيش مخاضاً عسيراً نتيجة التحوّلات الصناعية الكبرى وتحوّل الرأسمالية الى أعلى مراحلها الامبريالية وتمركز الرأسمال المالي في أكثر من دولة، الأمر الذي أسهب في احتدام الصراع بين الدول الرأسمالية في ما بينها بسبب انعدام عدالة التوزيع واحتدام الأزمات الاقتصادية المتتالية، لأكثر من سبب، فكان براغماتياً البحث عن مخارج تساعد الدول الناشئة والمتحوّلة حديثا إلى إيجاد سبل ومخارج تسهم في حلّ أزماتها المتلاحقة.

وبسبب الأهمية الاستراتيجية لمنطقتنا العربية بعد ظهور الطفرة النفطية من جهة والحاجة المستدامة للمواد الخام وفي القلب منها الذهب الأسود البترول الذي أسهم في رفع الإنتاج وتمركزه والحاجة إلى أسواق وممرات تجارية آمنة تدعم فكرة الاستعمار الجديد، ومع اكتمال عناصر المشروع الصهيوني كانت حكاية فلسطين وشعبها، فلم تكن يوماً فلسطين غائبة عن التاريخ ولأسباب عدة منها الديني والسياسي والجغرافي كون فلسطين تطلّ على القارات الثلاث وتمسك بالبحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، الأمر الذي يُسهّل عملية مرور سفن النفط والتجارة في وقت قياسي يساعد في عملية النهب المنظم للثروات النفطية وفتح أسواق عائدات البترو دولار التي تعود بوافر من الربح.

ولهذا السبب الموضوعي معطوف عليه أسباب أخرى، حَلّت على فلسطين والمنطقة النكبات المتعاقبة. ففي العام 1947 كانت أول مجزرة ارتكبتها العصابات الصهيونية في بلدة حولا الجنوبية في لبنان، ولا زالت شاخصة وحاضرة في الذاكرة الجمعية اللبنانية وخاصة الجنوبية منها، وصولاً الى نكبة فلسطين الكبرى في العام 1948 وبفعل الإجرام الصهيوني وارتكابه لأكثر من مجزرة جماعية وبشكل منظم في أكثر من مدينة وقرية فلسطينية التي أخذت شكل تطهير عرقي، ومعها تواطؤ عربي مشهود، فما كان من الفلسطينيين ونتيجة ضراوة الإرهاب الذي لجأت اليه العصابات الصهيونية إلا ان هاجروا باتجاه المناطق الأكثر أمناً ومنها لبنان، الذي تمكن من انتزاع استقلاله من المستعمر الفرنسي الذي منحه استقلالاً مشروطاً، على المستويين الطائفي والدستوري، وتوزيع الدولة، طائفياً ومذهبياً، بإيقاع يبقي لبنان على مرّ السنين متأرجحاً بين الوفاق والخلاف في كلّ ما له علاقة بشؤون الحياة العامة الخارجية والداخلية، وهنا كان التأسيس الأول للفكر الانعزالي المتعصّب دينياً في خطاباته الشعبوية التي لا زالت رائجة الى يومنا هذا.

مع بدء العمليات الإرهابية التي انتهت بنكبة الشعب الفلسطيني عام 1948 وتهجير عشرات آلاف اللاجئين الفلسطينين الى لبنان ومعهم نحو 95 ألف عامل لبناني كانوا يعملون في سوق عمل فلسطين متمتعين بكامل حقوقهم وفق قانون عمل فلسطيني متحضر ساوى بين العامل اللبناني وأخيه العامل الفلسطيني. وحين لجأ الفلسطينيون الى لبنان وعلى خلفية انّ فلسطين كانت مهد الحضارة العربية وتتمتع بغنى ثقافي وفكري ومتقدّمة في مجالات الاقتصاد وغيره من قضايا الإبداع، فقد حمل الكثير من الفلسطينيين زادهم المادي والفكري والثقافي، ولجأوا به الى لبنان. زد على ذلك رؤوس أموال ومقتنيات ثمينة كالذهب وغيره، الأمر الذي عزز الاحتياطي اللبناني، إضافة الى اليد العاملة الماهرة التي أسهمت في ما بعد رفعة وتطوّراً الاقتصاد اللبناني، خاصة في الزراعة، ولم يكن يوماً لجوء الفلسطينيين الى لبنان عبئاً اقتصادياً، بل كان على الدوام رافداً ومحفزاً ومصدراً غنياً، حتى انّ العديد من الكتاب المرموقين أكدوا صحة هذا الاستنتاج، ومنهم من فصّل في استعراض الأسماء والمؤسسات التي أسّسها او ساهم في تأسيسها فلسطينينون في لبنان والتي كان لها أبلغ الأثر في تطوّر وازدهار الحركة الاقتصادية اللبنانية، الا انّ سوء طالع الفلسطينيين ارتدّ عليهم بأقسى انواع التمييز أسوة بباقي طوائف لبنان التي هي بدورها هُمّشت وحُرمت بسبب عدم عدالة دستور 1943 الذي نتج عنه مصطلح «المارونية السياسية» عبر منح هذه الفئة أوسع الصلاحيات وتأكيد تفوّقها على النسيج اللبناني.

كان الفلسطينيون، بنظر البعض، هم الحلقة الأضعف والذين ظلوا على الدوام معزولين في مخيمات تفتقد لأبسط سبل الحياة، وكانت النظرة لهم في العلاقات اليومية نظرة أمنية يسودها شكل من العنصرية البغيضة في كلّ مناحي الحياة، ومَن مِن رعيل جيل التهجير الأول ينسى المكتب الثاني وممارساته، وهو المكتب الأمني اللبناني الذي كانت له اليد الطولى في قمع ومصادرة حقوق اللاجئين الفلسطينيين، وكان يلجأ دائماً الى أقسى صنوف الممارسات اللاإنسانية بحق اللاجئين، دون تمييز بين امرأة ورجل او حتى طفل وفتى ومسنّ وهو الأمر الذي مهّد الطريق لانتفاضة العام 1969 التي جاءت كشكل احتجاجي على سوء المعاملة وزيادة منسوب الظلم والقهر، إلا أنها لم تسهم في خلق سُبل حلول تساعد في تحسين حياة اللاجئين وأنسنتهم حتى عودتهم الى ديارهم، بل انها أسّست لمرحلة نضالية على الصعيدين الوطني والإنساني، كما أسّست لتحالف وطني فلسطيني لبناني، وفي ما بعد تفجّرت شرارتها في العام 1975 عبر ما سُمّى بالحرب الأهلية التي افرزت فريقين: الأول الفريق الانعزالي وبرنامج عمله المسلوخ كلياً عن واقعه العربي، وليس جزءاً أصيلاً عربيّ الانتماء والهوية، طارحاً عدة خيارات اهمّها قوة لبنان في ضعفه والنأي بالنفس والاتكاء على القوى العظمى في سدّ حاجاته الأمنية والاقتصادية، وهذا يتطلب مروحة من العلاقات السياسية التي كانت تُعاند رؤى الغالبية اللبنانية من مسيحيين ومسلمين.

اما الفريق الثاني الذي يشكل الأغلبية الساحقة، فقد كان عروبياً وطنياً، وكتحصيل حاصل تقاطعت مصالح هذا الفريق مع المشروع الوطني الفلسطيني الذي بدوره استفاد من اتفاقية العام 1969 المعروفة باسم اتفاق القاهرة، وانْ لم يحدّد بشكل واضح ماهية وشكل العلاقة الفلسطينية اللبنانية، إلا أنه كان منقوصاً ولم يأت على ذكر الحقوق الإنسانية والاجتماعية للاجئين الفلسطينين، وكان طابعه أمنياً من حيث المقاربة في العلاقة اليومية، ومع احتدام الانقسام في لبنان الذي أخذ بعد التقاتل والتمحور وصولاً الى تقسيم العاصمة بيروت بين شرقية وغربية حتى مرحلة اتفاق الطائف الذي وضع حداً للحرب الأهلية، إلا انه لم ينصف اللاجئين الفلسطينيين بإقرار حقوقهم، وكان رفض التوطين والتجنيس الشعار الأبرز الذي رفعه الفلسطينيون قبل اللبنانيين، وبقي اللاجئون عرضة لتطبيق أقسى أنواع القوانين الجائرة شكلاً ومضموناً.

وقد أفرزت هذه المظلومية حالة نضالية سلمية على أكثر من صعيد مطالبة بتحسين سُبل عيش الفلسطينيين بالاعتصامات والأشكال النضالية السلمية الأخرى التي لم تجد يوماً آذاناً صاغية، علماً انّ جزءاً كبيراً من نخب لبنانية كان ولا زال مقتنعاً بالمظلومية الفلسطينية، الا وعودهم وسعيهم على الدوام كان يصطدم بجدار الدولة العميقة التي تتجاذب في ما بينها في أكثر من ملف كان يأخذ شكل مقايضة المواقف في بازار السياسة اللبنانية بإيقاع يبقي الظلم على اللاجئين قائماً دون أيّ حلول، بل وزاد حصار اللاجئين عبر عدة إجراءات أمنية قاسية من الجدار الذي يحيط بمخيم عين الحلوة الى منع إدخال مواد الإعمار مع منع التملك وصولاً حتى قرار وزير العمل اللبناني الذي أطلق مصطلح تطبيق القانون على العمالة الفلسطينية التي وصفها باليد العاملة الوافدة او الأجنبية، ناسفاً الجانب القانوني ولاغياً الصفة الأساسية للفلسطينيين وهي صفة اللجوء التي عُرفت محلياً ودولياً بأنّ هناك تمايزاً بين اليد العاملة الأجنبية الوافدة للعمل وبين الوجود السياسي المؤقت لحين تطبيق قرارات الشرعية الدولية، وفي المقدّمة منها قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 الذي نص وبشكل واضح على حق عودة اللاجئين من حيث هجّروا، والوزير لم يأت بجديد عندما ادّعى انه يطبّق قانوناً كان قائماً ومغلقاً عليه في أدراج المؤسسة التشريعية والتنفيذية اللبنانية لإدراك الجميع انّ فتح هذا الملف يلحق أفدح الضرر باللاجئين ومشروعهم الوطني.

أما لجهة إصرار الوزير على تطبيق النصوص التي لم تراع او تستثن حالة اللجوء، بل وعبر الطلب باستحصال اللاجئين الفلسطينيين على إجازة عمل وتنطبق عليهم صفة اليد العاملة الوافدة، بما يسقط حقه كلاجئ على الصعيدين الوطني والإنساني لأنّ اجازة العمل تطلب إقامة وكفيلاً إلخ…

الأكثر غرابة طرح هذا القانون في الزمان الأميركي، زمان صفقة ترامب وورشة المنامة ويهودية الدولة مع مصادرة الأراضي الفلسطينية وتهويدها وضمّ القدس لتصبح عاصمة دولة الاحتلال.

اما بخصوص المكان فهو لبنان عاصمة المقاومة وهي التي تختزن صورة اللاجئين بكلّ معاناتها الأمر الذي فجّر احتجاجاً نضالياً مطلبياً غير مسبوق بسبب استشعار الكلّ الفلسطيني بأنّ هنالك أمراً ما يحضّر، أقله تيئيس اللاجئين ودفعهم الى الهجرة وفقدان أملهم بالعودة الى أرض الآباء والاجداد، فكانت انتفاضتهم العارمة بإيقاع واحد شمل المخيمات والتجمعات الفلسطينية في كلّ لبنان، وخرج عشرات الآلاف للتظاهر بشكل سلمي وحضاري مندّدين بإجراءات وزير العمل على أرضية ان ما يتمّ ترداده في الشارع: هل انخرط لبنان او قسم من اللبنانين بشكل جدي في صفقة القرن، وبات يبحث عن مصالحه عبر الخلاص من حالة اللجوء الفلسطيني في لبنان، وهل أخلاقياً وعبر التاريخ يتحمّل بلد المقاومة والتحرير الذي قدّم بالملموس أنّ إمكانية هزيمة المشروع الصهيوني هي حقيقة، وهل يمكنه ان يكتب اسمه في صفحة التآمر والخذلان ولعنة الأجيال، فمن حق كلّ لاجئ ولاجئة ان تساورهم هذه الشكوك، لأنّ التوقيت مريب…

ويبقى السؤال الأوجب ويضع الكلّ اللبناني على المحك والذي بات وفي أول جلسة لمجلس الوزراء والمطلوب نقطتان… أولاً تجميد قرار وزارة العمل وثانياً البت الفوري وسلة واحدة وبلا تسويف تعريف صفة اللاجئ ومنح كلّ الحقوق المدنية والإنسانية للاجئين الفلسطينين.. وحتى وضوح هذه الرؤية سيبقى إصرار الفلسطينيين قائماً معبّراً عن رفضه لكلّ ما يُحاك ضدّ وجوده وضدّ قضيته الوطنية بلا كلل او ملل ولن يستطيع ايّ كان من اغتيال الحراك وحلم الفلسطينيين الذي أجمع عليه كلّ فئات اللاجئين من قواه السياسية والشعبية حتى يسقط هذا القانون الجائر الظالم…

إعلامي في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين – لبنان

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى