المناطق الآمنة… وصناعة أشباه الدول

طارق الأحمد

منذ أن وُقّعت اتفاقيتا وستفاليا عام 1648 حيث كانت قبل ذلك حدود الدول أو الإمبراطوريات هي حيث تصل حوافر أقدام خيول جيوشها، أي أنها تبقى في حالات من الغزو المستمر، لكن تطور الزمن التاريخي فرض على الدول أن تذهب تدريجياً نحو مفاهيم جديدة لم تكن معروفة من قبل، وقد أضحت ثوابت بديهية، تسم العالم الحديث، وهي وبأساسها سيادة الدول على أرضها، واحترام الحدود… وكلّ الحروب أو جلها التي نشأت خلال الفترات المنصرمة، كانت بسبب الدفاع عن هذه السيادة أو الدفاع عند هذه الحدود. وبالتالي فقط أضحى سبب الحرب معروفاً بشكل كبير وهو اعتداء دولة على حدود دولة أخرى.

وبما أن سمات العالم في مراحله المتنوّعة تحدده الدول والقوى الكبرى لهذا العالم، سواء كانت تلك القوى الكبرى التي تتمتع بالاقتصاد الأكبر، أو النفوذ الأكبر، أو الجيوش الأقوى والأعتى والأكبر. وفي الماضي كانت تلك التي تتمتع بالأساطيل البحرية الأقوى والأكبر، أو التي استخدمت التقنيات الحديثة، أو اليوم تلك الدول التي تملك التقنيات الأكثر حداثة والتي تمتلك ناصية التكنولوجيا المتقدّمة والتي تسجل أعلى نسبة من براءات الاختراع ذات الأهمية، وبالتالي فهي تسيطر على مقدرات العالم، وذلك كما يجري في العالم الافتراضي وثورة الاتصالات والإنترنت وغيرها، فإن هذه الدول بصراحة كاملة.. هي التي ترسم سمات العالم.. وهذا ما كان عليه في الزمن الماضي والحديث أيضاً، بمعنى أن الدول المتصارعة الكبرى، كانت هي التي ترسم سمات العالم، كما كان مع الامبراطورية الرومانية أو الفارسية أو دولة الاسكندر المقدوني وغيرها في العصور القديمة، أو مع الدول الكبيرة اليوم كالولايات المتحدة الأميركية وروسيا والصين. وبالتالي فإن رسم السمات التي تحدد ما يجري وسيجري في هذا العالم منوطٌ بـهذه الدول أو غيرها التي تستطيع أن تثبت تأثيراً في العالم، ويمكن أن نقول إن هذه النتيجة أو الاستنتاج هو مع الأسف صحيح أو أنه صحيح واقعياً سواء أعجبنا هذا الأمر أم لم يعجبنا، لأنه يشبه حركة الأجرام السماوية والكواكب، حيث تقوم الأجرام السماوية الكبرى والتي تملك القدر الأكبر من الجاذبية، بجذب كل الأجرام السماوية الأصغر حجماً… والكويكبات الأكثر انتشاراً وحجمها صغير في مجالها المغناطيسي، وبالتالي فهي تحدد الحركة التي تستطيع جذب الكتل الأصغر إليها في معادلات فيزيائية حسابية محددة، وبالتالي فإن سماتها الحركية تنتظم وفق ما تحدده القوى الأكبر.

اليوم نجد أن هذا العالم دخل في حالات من الصراع انتهت مرحلة منها بعد الحرب العالمية الثانية، وقد أفضت إلى ظهور قوتين كبيرتين كانتا هما الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي، وخفوت قوى كانت عظمى في الماضي وخاصة فرنسا وبريطانيا، وألمانيا طبعاً كنتيجة للحرب. وقد امتد هذا الأمر حتى سنة 1991 وهو تاريخ انهيار المنظومة الشرقية الاشتراكية، ولكن ومنذ الألفية الثانية تقريباً بدأت ملامح ظهور عالم جديد في التكشف، وهذه الملامح ذهبت نحو آلية جديدة من تمييز هذه القوى الكبرى.. وهي لا تعتمد على آليات الصراع القديمة نفسها أي القوتين العسكريتين الأكبر كما كان الحال بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية، وإنما ثمة ملامح جديدة كلياً وآليات جديدة وشروط جديدة أيضاً، بمعنى أننا إذا دخلنا قليلاً في التفاصيل ولن نغرق في هذا المقال بالذات كثيراً في الأمر لأن غاية المقالة مختلفة تماماً، فإن نوع الصراعات هو ليس بالضرورة اليوم بين أطراف عدوة أو خصمة لبعضها بعضاً كما كان في السابق لا على المستوى الإيديولوجي ولا على المستوى العدائي التقليدي.. ويمكن أن نشير إلى مصطلح – الأخوة الأعداء – كحالة متفشية في الخصومات الحديثة جداً جداً، بمعنى أن دول في الاتحاد الأوروبي قد تكون هي الأكثر عداء لبعضها بعضاً أو للولايات المتحدة الأميركية اليوم في العمق، حتى ولو أنها ضمن منظومة واحدة. لماذا؟ لأنها تستشرف التمايز المقبل وتستشرف المستقبل الذي سيضعها في خصومات جيوسياسية مع بعضها، وليس أدل على ذلك من ظاهرة البريكست لبريطانيا، والكباش الكبير حول مسألة خروجها من الاتحاد الأوروبي، وتعبر عن توجهات حقيقية لقوى بعينها تشعر بالتخاصم في ما بينها، بمعنى أن هذا الاتحاد الأوروبي لا يحمل السمات المشتركة نفسها في المعنى الصراعي، وبالتالي هو ينطوي على خلافات حادة في المصائر الكبرى المستقبلية وهذا ما يجب أن نشاهده ونضعه في عين الاعتبار.

النوع الآخر طبعاً والأكثر أهمية هو الصراع الذي ظهر جلياً بين الصين والولايات المتحدة الأميركية، وهو الصراع الأكثر فعلاً على الأرض مع أنه قد قام كالمارد الضخم من البحيرة الذي نهض رويداً رويداً وذلك لأن الاقتصادين الأكبرين في العالم الاقتصاد الأول هو الولايات المتحدة الأميركية والاقتصاد الثاني الصين الشعبية هما الاقتصادان الأكثر تخادماً في ما بينهما خلال العقود الأخيرة المنصرمة كلها، وعلى حساب باقي الاقتصادات الكبيرة في العالم كاليابانية والألمانية وباقي دول العشرين الأكثر غنىً وتصنيعاً في العالم، ولكن مع ذلك فإن حدة الصراع والتسابق والتسارع الحقيقة وكلمة التسارع هي الأكثر أهمية وتعبيراً ههنا عن خطر نمو الاقتصاد الصيني قد أرعبت الأميركان حتى شعروا بأن هذا المارد الذي يعيش في بحيرتها هي أصلاً بالذات وفي كنفها وفي شراكة هي الأكبر معها والأكثر خطورة عليها. وبالتالي فإن سيلاً من المشاريع التفتيتية ومشاريع الحروب ومشاريع الصراعات قد انهال على مختلف دول العالم في آسيا وأفريقيا وفي دول العالم العربي وفي أميركا اللاتينية وبحر الصين والمناطق المختلفة وكل ذلك لوضع العراقيل أمام صعود هذا المارد وصعود مردة محتملين آخرين، وطبعاً كل ذلك في إثبات لا نظير له ليس لنظرية المؤامرة ووجودها فحسب، وإنما لأن نظرية المؤامرة هي أكثر فعل بديهي يمارس كل يوم وكل سنة في الدوائر الأميركية وذلك في الداخل والخارج.

الانعكاسات:

طبعاً إن أكثر ما يهمنا مع هذا الوصف المختزل لما كان يجري وما يجري الآن هو انعكاسات هذه الصراعات العالمية على دولنا وبشكل عام على الدول المتوسطة الحجم والصغيرة الحجم. والانعكاس الأهم وهنا الملاحظة، هو ما يجب التنبيه له ودراسته في فترة مبكرة نوعاً ما إذا اسميناها مبكرة، لكنها ليست مبكرة ولا استشرافية، بل هي موجودة بيننا منذ سنوات ولكنها لم تأخذ شكل الحالة المتفشية أو السمة الطاغية لأنها حالة شاذة وغير معترف بها في قوانين وميثاق الأمم المتحدة المعمول به منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهي بالتالي محط نزاع.

تحويل الصراعات الحدودية إلى أشباه دول:

ولذلك وعندما تتفشى هذه الصراعات أكثر وتستعصي على الحل فيُخشى من مشاريع القوى الكبرى.. ويجب التنبيه وقراءة أو استقراء المستقبل ما أمكن، بحيث أنه يمكن لهذه القوى الكبرى أن تتفق على أن لا تبقي هذه الحالات هي حالات نزاع وإنما يمكن أن تعترف بها. وأقصد ها هنا بالتحديد أن الصراعات التي تنشأ بين الدول بسبب الخلافات على الحدود وهي سمة عامة وأن هذه الحروب بين الدول، لا تنتهي ولا تحل وتبقى في حالة تحارب مزمن تصعد فترة وتخبو فترة تبعاً للحالة السياسية، ثم تظهر بقوة الأمر الواقع دويلات متشاطئة على حدود الدول وهي أشباه دول… وهي قد أصبحت في أكثر من منطقة موجودة وكأنها جيوب لدول أو كما أسميناها أشباه دول أو دويلات تختزن حصيلة هذه الصراعات دون أن تحلها، والأمثلة على ذلك عديدة كدويلة شمال قبرص التركية التي لا تعترف بها إلا تركيا ولكنها واقع إضافة إلى كشمير بين الهند والباكستان، وبالإضافة إلى الوضع الذي نشأ في شمال العراق والذي يتمّ العمل حالياً بين القوى الكبرى كي ينشأ في شمال سورية، وبالتالي فإن سمات جديدة مشتركة أصبحت تسم مثل هذه الظواهر التي تنشأ وتتخادم مع أهداف ذات سمات ومشتركات عامة في هذا السياق وتدعم الدول الكبرى وبخاصة الولايات المتحدة الأميركية مثل هذا التوجه وتبقي على الأزمات دون حل إلى أن تنشأ كواقع راهن.

وهنا تنشأ حرب في دولة مثل العراق أو سورية ويتحدث جميع المراقبين عن سؤال يخطر في بال كل مَن يراقب أو يخطر في بال السكان أو المواطنين، كما أنه يشكل خوفاً وهاجساً مشروعاً وهو: هل سيؤدي ذلك إلى التقسيم أم لا؟ فتأتي الاجتماعات الكثيرة والمؤتمرات والاتفاقات والإعلانات، والمؤتمرات الصحافية للمسؤولين الكبار في الدول الأكثر تأثيراً لتصرح بجلها نافية أي إمكانية لتقسيم هذه الدولة، وغالباً ما يكون هذا الأمر صحيحاً، بمعنى أن نيات التقسيم غير موجودة، ولكن مَن قال بأن التقسيم على طريقة تقسيم السودان إلى شطرين جنوبي وشمالي هو الحالة الوحيدة المطروحة؟ فإن الحالة التي لا يعترف بها أي طرف من الأطراف، ولكنها تبقى حالة واقعية تقوم بتغذيتها معظم السياسات.. وهي تتحول مثل /قصة موت معلن/ في رواية غابرييل غارسيا ماركيز حيث تشير إلى أن كل الذي يجري يؤدي إلى النتيجة نفسها، وهو أن تنشأ أشباه دويلات ولا يعترف بها أحد، ولكنها تضم بين ظهرانيها جل السمات والظروف المشتركة لخط واقع جديد. وها هنا نعني بالتحديد الظروف التي تنشأ في شمال سورية وعلى الحدود التركية السورية وتحديداً في الاتفاق الأخير الذي جرى بين الولايات المتحدة الأميركية وتركيا والذي أول ما يتّسم طبعاً بالضبابية ثم الغموض، ولكنه يحمل كل الصفات التي قد تؤدي لما شرحناه آنفاً من الظروف التي تشكل شبه الدولة. وهذا يعني طبعاً بأبسط العبارات بأن لا عودة للحالة التي سبقت عام 2011 وأن مَن هلل وهول على الدولة السورية بالتغيير الديموغرافي كان هو الذي يعمل بصمت أو تحت ضجيج كل تهويله السابق لكي يعمل أكبر عملية تغيير ديموغرافي في سورية وذلك في الشمال السوري، وما تجهيز كل البيئات لحدوث ذلك إلا الدليل الأكبر على تخطيطه هذا والذي سيبدأ من إعلانه هذه المنطقة المسماة آمنة، والتي أُسست لها غرفة عمليات مشتركة أميركية تركية والتي ستدير وتنظم كل هذه الخلافات والصراعات والحروب ولن تخلو أعمالها أيضاً من الصراعات والحروب التسويات أيضاً.

وأما السمة العامة لها فهي ستكون السير باتجاه وجود حالة مختلفة في الشمال وفي هذه المناطق يتم تهجير وإسكان مختلف أنواع البشر الذين سُحبوا من بيوتهم نتيجة الحرب وبطرق متنوّعة لن ندخل في ذكرها الآن، ولكن النتيجة الوحيدة هي بأنهم سحبوا إلى هذه المناطق المحددة عبر دائرة فوضى خلاقة ستخدم فكرة تأسيس شبه الدولة الآمنة .

نتيجة هذا الأمر كله سوف نجد بأن فكرة حرس الحدود الذين يقفون بقبعات مختلفة الألوان أمام بعضهم بعضاً لدول متجاورة أو تعيش حسن الجوار بينها لن تعود صالحة على كامل حدود الدول، ولا هي كذلك في الشمال السوري، وإنما يراد أن تكون هناك جيوب فاصلة تفصل بين الحد والحد الآخر وتشكل حالة مختلفة طبعاً لا تعترف بها الدولة الأم ولكنها تبقى حالةً بقوة الأمر الواقع إلى عدد طويل من السنوات، يدوم كما تدوم الحروب والأزمات في المنطقة، والتي ستدوم سنوات عدة أخرى بسبب عدم استقرار المنطقة ككل. وهذه التجربة هي التي يمكن أن تتكرر في مختلف مناطق الصراعات المقبلة في العالم… ولكن ما يهمنا بالدرجة الأولى هو ما سيجري في سورية، وبالتالي وإذا استشرفنا المخطط وهو أن تجري التسوية بعد تحرير القسم الأكبر من إدلب أو تحرير إدلب كاملة مع بقاء منطقة الجزيرة السورية بحالة خاصة تهيئ لمنطقة، شبه الدولة، غير معترف بها ولكنها تبقى في حالة تفاوض… فإن هذا الأمر سينذر ببقاء حالة اللااستقرار في المنطقة، وهذا ما يجب الرد عليه وعلى مخططه بقوة من خلال حلّ وحيد لا يبقى أي بديل عنه وهو وصل دمشق ببغداد… هذا الوصل هو الوصل الوحيد الذي سيمنع تشكل هذه الحالة الشاذة أو يقاومها إن تشكلت وفق الرغبة الأميركية والتي ستستخدم طويلاً لبث اللااستقرار في سورية وجعلها منطقة قلاقل مستمرة باستمرار الاضطراب في كل المنطقة العربية… حيث لا يوجد ولا مؤشر عاقل يقول بأن هذه المنطقة سوف تستقر لـكل السنوات المقبلة وإنما المقبل من السنوات يحمل بذور الحروب الجديدة واللا استقرار في الدول المحيطة، وبالتالي كيف يمكن التفكير بأن يكون هناك استقرار في سورية بعملية سياسية أم بدونها، ناجحة كانت أم فاشلة؟ الاستقرار مسألة قليلة الوثوقية في الحالة الراهنة.

التدعيم بديلاً عن التسوية:

يجب ههنا أن نفكر ملياً بالتدعيم وليس بالتسوية السياسية التي يمكن أن لا تؤدي إلا إلى الوهم…. الاستقرار السياسي الذي لا يمكن أن يقوم أبداً على قاعدة هشة بين سورية وتركيا، وبالتالي فالعودة إلى منطق التدعيم والتثبيت ما بين دمشق وبغداد بأي حالة من حالات التكامل أو الاتحاد أو فتح الحدود وتكامل الأدوار… هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن يحصّن كل المنطقة من عواقب أزمات وحروب سوف تصاب بها المنطقة ككل وهي مرشحة لمزيد ومزيد من الصراعات ما لم تحدث معجزات كبرى يندر حدوثها مع دول كبرى تحكم من قبل رؤساء على شاكلة ترامب وجونسون وأشباههم…

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى