«اللص والكلاب».. صراع الخبز والحب!!..

طلال مرتضى

كما القارئ العليم يستطيع أن يتحسّس كينونة الشخصية الروائية وتركيبها الحركي والنفسي معاً وهو ما يتأتى بالسؤال البديهي، أن هذا لم يكن عبثياً، أليست الشخصية الورقية هي صناعة قامت لتجسّد واقعاً ربما لا نعيش أحداثه وتداعياته إلا في المتخيَّل؟ فكل هذا طبيعي وهيّن عندما يذهب أي منّا نحو خلق شخصية ورقية لتجسد حدثاً ما، لكن ما هو غير طبيعي أن يزرع الكاتب في كيان تلك الشخصية الكثير من تضادات الحياة وتناقضاتها، كالخير والشر أو ما بين العلم والجهل!!..

وبعيداً عن كل هذا وذاك وما تطرّقت له أعلاه، أقول إن القارئ في تلك الأثناء يقع تحت امتحان تحدٍّ بينه وبين قناعاته، فبالمطلق أياً كان القارئ بليد الحواس أو بارد النيات لا يمكن ولا بأي شكل من الأشكال أن يتعاطف مع القاتل. فالقاتل قاتل في نهاية المطاف بمعزل عن ظروف جريمته، فمهما دأب الكاتب إلى تلميع صورته في عيون قارئه لا يمكن أن تسقط عنه الجريمة أبداً..

نجيب محفوظ وفي رائعته «اللص والكلاب» استطاع خلق شخصية حيوية تنطبق عليها كل ما تقدّمت على ذكره أعلاه، شخصية متنامية كثّف من حراكها كي يواتر من حضورها الفاعل على أرض الحدث، وليس بغريب على قامة أدبية سامقة مثل محفوظ أن يستجرّ القارئ المتيقن العارف بكل حواسه بأن بطله ذاهب للقيام بجريمة قتل وضّح حدث الرواية، ومع هذا يشعر بأنه مطالب قرائياً أن يمدّ كفه إلى داخل الورق ليحرك هذا الشخصية أو ينبهها حين يستشعر أن خطراً ما يقترب منها أو يدهمها..

سعيد مهران الذي تشبّع بأفكار الانفتاح ونهل من أمهات الكتب الثورية حد الطمي، هو ذاته الشخص الذي يمتهن السرقة ليعتاش، لكنه اللص الشريف – كما دوره في المروية – الذي لا يسرق إلا من اللصوص الكلاب الذين ينهبون خيرات وتعب الفقراء..

طيبته أوقعته ضحية زوجة خائنة وأصدقاء يدّعي بأنه يطعمهم من خيره، هم يعرفون أنهم كانوا يأكلون من يده حراماً، لكنهم كانوا في الوقت ذاته يبررون له جسارته كلص محترف، إن السرقة من السارق على قول أهل المعمورة «جدعنة».

أوقعوه في السجن وأنكروا عليه كل شيء حتى طفلته الصغيرة عند خروجه بعد أربع سنوات من الغياب لم تتعرّف إليه وخافت منه!..

هنا يبدأ الكاتب بنسج حبكة أخرى ويرمي أطراف خيوطها بين أصابع القارئ ليجرّه إلى داخل النص، عندما دفعه للتعاطف مع سعيد مهران ليذهب إلى العاطفة – التي اكتظت بتفاصيل الحقد والغبن واشتعال حريق الثأر – ويغيب عقله الواعي الذي كان يذكّره بالسجن والجريمة لتنتصر بالنهاية العاطفة على العقل ويذهب القارئ من خارج نص الحكاية متعاطفاً مع سعيد ولا يتوقف هنا بل ذهب معه إلى كل مسارح الجرائم التي ارتكبها والتي ولسوء الحظ كانت الكلاب المقصودة تنجو ويقع بدلاً عنها أبرياء. وتلك إشارة أخرى من الكاتب تدلي بأن الفقراء في هذه الأرض ليسوا أكثر من وقود أو سواتر يلوذ بها الطغاة حين يشتد عليهم العصف..

نجيب محفوظ نقل صراع مرويّته هذه من كنه الورق إلى صراع تالٍ تجسّد بكيان القارئ، صراع القارئ مع ذاته من خلال الأسئلة المباحة، هل يترك سعيد مهران وحده ليواجه الكلاب أم يتمادى معه والنتيجة معروفة سقوط عدد من الضحايا لا ذنب لها؟!!..

لعل الكاتب توقف عن الروي عند نقطة ما في الرواية من دون أن يسلّم القارئ مفاتيح الخاتمة، من باب انه يعي تماماً بأن قارئه لم يعد خارج دائرة الحدث، بعدما غرر به وزجه عمداً ليخرج هو أي الراوي كشاهد لا أكثر، لستُ أدري إن أراد محفوظ الوقوف على حياد الحكاية بين اللصوص نحن الفقراء والكلاب هم خلال هذه الثورة الاجتماعية الظالم والمظلوم، الخير والشر، الحب والكذب، وهذا ما جرّني أيضاً للسؤال قبل تذييل مقالتي هذه بنقطة. هل الحياد مجدٍ في هذه الحياة المتواترة بعدما انجلى غمام الحكاية واندلقت شمسها؟!

كاتب عربي/ فيينا

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى