بمحاذاة المعركة

هنيبعل كرم

الأرضُ هي قيمةُ الإنسانِ عليها، وليس لكلّ أرضٍ القدرةُ على إعطاء أناسِها هذه القيمة التي تسمّى: كرامة، عزّة، وإباء.

في الشّام، تقول للهواء خذني معك ما استطعتَ، ارمني فوق كلّ الأمكنة والجبهات، فوق الشّجر الباسقِ إلى معاقلِ الغيم. هناك، حين تتلعثمُ بعددِ الشّهداء الذين يقصّون عليك الحكاية بطلاقة عجيبة، تقولُ للتراب أن يعلقَ عليك بقدرِ ما يمكنُ من الغبار المثقل بالعنفوان. تحسدُ الفلاحين الفقراءَ على دروبِ القرى، تتمنّى لو كنت على ثيابهم رائحةَ صعترٍ بريّ!

في الشّام، أيّ شيء هناك يشبهُ ما أبحثُ عنه. سأقول «أعرف، أن الحرب بالمناظير سهلة». ولكنّ انتصارَ إرادةِ الحياة على إرادة الحرب ومَن وراءَها ليس سهلاً على الإطلاق. في الشّام، لا حاجةَ لك إلى ضبطِ ساعتك على أيّ وقت، فالبلدُ الذي ترعرع فيه التاريخُ، وانتصرت فيه الجغرافيا السّاحرةُ على الرّمالِ المسمومة، لَبلد يصنعُ له وللعالمِ الزّمانَ الذي يريد.

النّاس مدهشون. مدهشون بحضورهم، بفرحهم، بدماثة أخلاقهم، باختراعاتهم البسيطة، بخبزهم اليوميّ، بقيمهم الراقية، وبالمعاناة التي جبلتِ الترابَ بالدّمِ لتعلو.. أبراجًا وأقواسًا ترتفع في كلّ قرية وناحية، عليها تزهو الرّيح مع وجوه الشهداء في عناق أبديّ قاسٍ.

فتّشتُ عن الحرب في بلدٍ عاش ويلاتٍ لا تُصدّق إلا في قصص الخيال، فلم أجدها! ولم أكن لأجدَها لولا المسؤولُ العسكريّ في «نسور الزوبعة» الذي أخذني في جلسة ساعتين بحديث متقطع، إلى البدايات… إلى حقول المواجهة، في ميادين الشّرف والدّفاع عن أرض عزيزةٍ وأهلِ وطنٍ لم يبخلوا بعزيز على الوطن.

مرّة أخرى كنت معهم، وبينهم، أتبارك من عرق جباههم وأياديهم الممدودة بكرمٍ للمصافحة. مشيتُ ما استطعت دروبًا وعرة، جبالاً وسهولاً ووديانًا وبادية، وأيامًا شديدة البأس مع شبّان أقسموا كلّهم أن يعودوا شهداء فداءً لهذا التاريخ، لهذه الجغرافيا، ولهذه الأمّة، وليس لأيّ أمر آخر. كانوا حذرين دقيقين بالتصويب، لا يفرّطون بطلقة، رغم جحافل الوحوش الضارية التي اجتاحت مناطقهم بما يفوقُهم عدّة وعديدًا. لا يفرّطون بالطلقات لأنّ سلاحهم مدفوعٌ ثمنُه، لا من المعادلات الدولية والاقليمية… سلاحُهم مدفوعٌ ثمنُه في أفرانِ الحطبِ وخبزِ التنّور، مدفوعٌ ثمنُه من تينِ الحقول «المسطوح» على شرفات منازلِ القرى، من القمحِ على البيادر، من العنبِ المعصور في الخوابي نبيذًا حالمًا، من أقلام الرّصاص والتلوين في محفظات الأولاد. مدفوعٌ من الوجع والقهر والجوع، مدفوع من أرحام النساء اللواتي باركنَ أبطالهنّ في سفرهم الأخير إلى جبهات القتال، هناك حيث لعلعَ الرّصاصُ أهازيجَ عزّ ومواقفَ بطولة، ورواياتِ حبّ لصبايا لم يزلنَ يحتضنَّ بفخرٍ أسماءَ أحبائهم، روائحَهم، ومناديلَهم، وأحذيةً نما فيها الياسمينُ كما ينمو على جدرانِ المنازلِ المهجورة.

تتعطّل «المحمولة»، والقصفُ حامي الوطيس… تنفدُ الذخيرةُ… يتعبُ السّلاحُ الأبيضُ ولا تتعبُ إرادةُ الرّجال ولا زنودُهم. «هنا كان لنا دورٌ أساسيّ في صناعة النّصر… هنا ارتقى عشرات الشباب… هنا ردَدْناهم… هنا صدَدْناهم… هنا اشتعلتِ السّماءُ فوق رؤوسِنا، والأرضُ… فعَبَرنا إلى الموتِ والسواعدُ زوايا قائمة، بلا أيّة رايةٍ بيضاء. هنا أُعطِينا الخيار بالتراجع، فكانت ملحمةٌ من ملاحمِ عزّ هذه الأمّة… هنا كنّا عظماء في قتالنا وعظماء في عطائنا، وعظماء في تضحياتنا وأخلاقنا وسمعتنا… هنا رسمنا مشهدًا يليقُ بتاريخِ هذه الأمة، وصورًا واقعية لقادة معظمُهم غيرُ معروفين… قادة شجعان رحلوا، فقامت عائلاتهم في اليوم التالي إلى البيادر والكروم، ولم ينتظروا تعويضًا أو منّة من أحد.

سكتّ شاردًا… فسألني: «ما بك؟» لم أجب. ولأكون صريحًا مع من يقرأ هذه السّطور، لم أفكّر في تلك اللحظة إلا بالثرثارين والجالسين وراء مكاتبهم يتفزلكون حول أمور السياسة والحرب والشعر والموضة والحياة…

طال الحديث، يقطعُه من وقت لآخر بالتفاتةٍ صوبَ طفلهِ الذي لم يكمل عامَه الأوّل بعد، يتفقّد نومَه الهانئَ الآمنَ كما مئات مئات الآلاف من أطفال الشّام اليوم.

فجأة، يستقبل جوّالي رسالةً من لبنان بما تيسّر من «وايفاي» يغيبُ ساعاتٍ ويأتي مرهقًا برسائلَ لا طعمَ لها، عدا الأزمات وأزمات الأزمات، ثم الأزمات، فالأزمات، فأخبار النّهابين، ثمّ الفساد ومن بعده نكاتٌ وصورٌ لمطاعمَ وشوارعَ وشخصياتٍ سخيفة أو مضحكة، وأخيرًا تعليقٌ متهكّمٌ من «صديق» عرف أنني في الشّام يقول فيه: «أنت أيضًا ذهبت إلى «سورية للقتال؟ أرسل لي بعض الصّور».

سكتّ طويلاً… لم أكن أريد أن أعكّر مزاجَ غبطتي بهذه الأرض وبأهلها، بزواريب السياسة اللبنانية القذرة… فأجبت بعجالة أزعجتني:

نحنُ يكفينا فخرًا «أننا لم نذهب إلى سورية للقتال…» لأننا فيها ولها منذ بداية الزّمان وحتى انتهاء الزّمان، بلا منّة من أحد. نحن في فلسطين لنا منفذية ومسؤولون وكانت لنا كليّة حربيّة، لا نذهب إليها، لأننا فيها منذ ابتداء الزمان حتى نهاية الزمان. نحن في العراق لنا منفذيتان أو أكثر، ولا حاجة لنا بالذهاب إليها، لأننا فيها ولها منذ ابتداء الزمان وحتى نهاية الزمان. نحن في الأردنّ لنا فيه منفذيات ونوّاب ومسؤولون. نحن في لبنان أطلقنا ثورة «الإنسان الجديد» وأطلقنا مقاومة العدوّ وكسرنا رأس العصر «الإسرائيلي» منذ الثمانينات… نحن هنا منذ ابتداء الزمان وحتى انتهاء الزّمان، ويومَ ستشتعلُ السّماءُ فوق رؤوسنا وتذوبُ الأرضُ تحت أقدامنا من عصْفِ نيرانِ القتال، وتنفدُ الذخائرُ والمؤن، وتتعطّل «المحمولات»، ويتعبُ السّلاح الأبيض في معاركَ يفلُّ الحديدَ فيها الحديدُ… لن تتعب إرادتُنا ولا أفواهُ الأمهاتِ من الدعاء لأبطالٍ نبتوا على الحدود رماحًا لا تصدأ، وعلى الضّفافِ وردًا يغازلُ الريح… و في الحقول، شقائقُ النّعمان يشرئبّ من دم أدونيس.

أمّا الصّور يا صديقي فلا تمنعُ حربًا، ولا تصدُّ جيشًا ولا تعطشُ ولا تجوعُ ولا تقاتلُ ولا تقاومُ ولا تستشهدُ، ولا تبني دولةً ولا مجتمعًا واحدًا موحّدًا قويًّا عزيزًا شريفًا ولا طائفيًّا.

الصّور لا تقولُ شيئًا… لا شيءَ على الإطلاق.

الصّور… لا قيمةَ لها إلا بقدر ما تعبّر عن مصلحةَ الأمّة وعزّها – الأمة كلّ الأمّة، وإلا فهي ورق بخسُ الثّمن.

لا بأسَ أن تقلّ الصّور، فمشاهد العزّ اليومَ هي مساحةُ وطنٍ كبير وجيش عظيم وأمّة حيّة… وهتافُ حناجرِ الأبطال: «تحيا سورية».

كلّ نصرٍ وأنت بألف خير».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى