دينامو راشيا المُستعاد

هاني سليمان الحلبي

منذ كنت فتىً، كنتُ ألمحُه يزور جدَّه المرحوم الشيخ علي محمود وخالته أكابر. مراتٍ وحيداً ومراتٍ برفقة والدته الطيبة الذكر المرحومة رئيفة أو والده الطيب الذكر المرحوم محمود، ينزلق بخفّة شاب بهيّ الطلعة لطيف البسمة منخفض الصوت، من رصيف الطريق العام بطريق ترابية إلى منزل جده علي الوقور المتبحّر بعلوم الدين، حيث كان مقصد طلاب علم ودين ومعرفة. وفي أواخر أيامه اعتصم غرفته ناسخاً وشارحاً وقانعاً بتلك العلاقة الفردية السرية التي تربط الخالق بالمخلوق، بعيداً عن جاه الأفراد المتسلّطين من الشيوخ وعن بهرجة الجماعة وجاهها.

وعندما نتشاقى في مغامراتنا، أنا وابن خاله جمال، فنجول على أحصنة خشبية قوامها عصا غليظة بين ساقي كل منّا نستعيد حملات الانكشارية أو جيش حطين، نلمحه يسوق الميني كوبر الخضراء الفريدة في تلك الأيام، بصغر حجمها. ونستغرب بهذا الحجم الضئيل كيف تنوء وتجهد بشحن بضعة شباب يكاد بعضهم يتسلق سطحها ليجد محلاً بين زمرة المحتفلين بعودة هايل من بيروت أيام السبوت والأحاد. وهايل أمس هو الدكتور هايل محمود سعيد. أستاذ دكتور في بيولوجيا الخلايا في الجامعات الأميركية، أحد كبار علمائنا في أميركا.

لم تجمعنا حينذاك، لقاءاتنا بسبب فارق العمر بين جيلين. فلكل جيل خواصه ومزاياه، بينما في فترات النضوج والكبر يمكن ان تترافق الأجيال وتتكافل ولو كان بينها فارق عمري شاسع، قد تجمعهم قضية واحدة.

مرت سنوات لم أره. سألت فقالوا لي سافر للتخصص في أميركا.

وأميركا خلف محيطات وبحور. وهي الحوت الأعظم في هذا الكوكب، فكيف مَن يدخل جوف ذلك الحوت يعود إلى منابت الطفولة ومرابع الصبا؟ إلا إذا كان من طينة النبي يونس..

..وكبرنا! التقينا لماماً منذ حوالى عشرين عاماً، إذ كنتُ مهموماً بشؤون بلدية في راشيا.. التطوير والتنمية واستعادة المكانة والدور والمواكبة العصرية وفرص العمل.. بضع سنوات.. وحللتُ البلدية أيلول العام 2000 لأنسحب من الشأن العام إلى حينه الآن.

بادَرَنا مشكوراً في واجبي عزاء في آذار الماضي، للتعزية بالمرحومة والدتي، والأسبوع الماضي للتعزية بالمرحوم إبن خالي أبو فارس محمود فعلمت أنه في راشيا..

ولفتني في عيد الأضحى الماضي هذا العام، أنه بادر بفكرة لفتة كريمة عبر المختار الصديق أحمد أبو منصور، إلى دعوة للقاء العيد في دار العائلة آل فايق ، لمّة محبة ومعايدة.

تلتها فكرة ثانية، قرّر بالدعوة إليها عبر بلدية راشيا، لحملة نظافة تطلق حركة وعي بيئي وصحيّ، تستعيد دهشة البيئة من أخطبوط الإهمال والأوساخ والفردية وعدم المساءلة ووعدم الالتزام. فكانت حملة النظافة نهار الأربعاء أول أمس في 21 آب، فحوّلت شباب راشيا، بتجمّع شباب راشيا، جمعية الصليب الأحمر، جمعية نحنا راشيا، وغيرها من الجمعيات والأفراد المتطوّعين إلى خلية نحل ينظف ويمسح عن جمال راشيا بلمسة النشاط والتعاون ما علق بها على الأرصفة وجنبات الطرق والمفارق.

وبادر الزميل الدكتور مهنا، منذ أسبوعين بالدعوة إلى لقاء جمعنا بالدكتور هايل. فكان نقاش راقٍ في هويتنا وتراثنا ومهام المثقفين والشباب والتاريخ المهمل بين أنقاض الأوابد المهدَّمة، في القرى والجبال والأودية وفي النفوس المستسلمة لواقع بائس محلياً ولبنانياً في لبنان الـ 10452 كلم2.

إثر النقاس لمدة ساعتين ونيّف.. برزت عقلية العالم، بعد قولي عن خطة قيد الإعداد للنقاش والمشورة والتنفيذ، فأعطاني عنوان بريده لأرسل له التفاصيل للدرس المعمق والمسؤول.

د. هايل سعيد، قامة علمية سامقة، لم يلفّ نفسه بكلاب حراسة ولا ببوابات إلكترونية، ولا بكاميرات مراقبة، ولا بحجّاب وحراس ومواكب مرافقة. باب مفتوح وبسمة مضيئة وقلب مترع بالحب والحياة والانتماء الناضج، بلا تسييس ولا عنصرية الحارات والعائلات والطوائف والأحزاب الفئوية، وكفّ خيّرة بنعمة الحياة مبذولة لمجد الإنسان وكرامته.

هكذا.. بدأ الفعل المنتظَر أن يستفيق القانعون المستسلمون بانكسار، عندما يكون قيد التشغيل دينامو راشيا المستعاد من الحوت الأميركي.

عضو اتحاد الكتاب في لبنان

وعضو نقابة المحررين في الصحافة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى