استدعاء الموروث الإجتماعيّ واستنهاض الواقع في المجموعة القصصيّة إحكي يا شهرزاد للقاصّة د. دريّة فرحات

د. نزار حنا الدّيراني

قد تكون مهمة توظيف الموروث في الأدب القصصيّ عند البعض قد أخذت مسارًا أحاديًّا أي من أجل النّقل والتّكرار.. الا أنّ القاصّة درية فرحات في مجموعتها القصصيّة هذه والصّادرة عن دار الأمير للثقافة والعلوم عام 2019 قد أضافت إليه مسارًا ثانياً وهو التّوظيف الجماليّ، حيث صوّرت الهمّ المعيشيّ والفكريّ والنفسيّ بكل أبعاده ومدلولاته من خلال البؤر التي يتمحور حولها السّرد في قصصها التي تدعونا للتّوقف عندها والتّفكير في كلّ واقعة من وقائعها، وحيث تتعامل معها لكونها فاعلًا نصيًّا حيًّا يتجاوز حدود الماضي إلى الحاضر وما بعده، حسب معطيات التّوظيف السّرديّ.

تعدّ الوقائع الاجتماعيّة الهموم الإنسانيّة، النفسيّة والمعيشيّة والسياسية من المواضيع المتميزة والمثيرة على صعيد الكتابة القصصيّة حيث احتلت المساحة الكبيرة في نصوصها الإبداعيّة انطلاقًا من تأثّرها بالواقع الاجتماعيّ وانعكاساته في شخوصها ومجتمعها، كما في قصصها في الأربعين، الغائب، موت عصفور، صدى الماضي، الرسالة الأخيرة، العجوزان، صاحب الصورة،… حيث نجد ترسّبات الموروث باقية تعمل عملها في عمق شخصية الفرد مهما حاول التخلّص أو نكران تأثيرها عليه.

ففي قصتها تعويض تريد لفت الانتباه لما يشغل بال المواطن اللبناني والإعلام بطلب تعويض على ما أصابهم جرّاء الحروب الخارجيّة والأزمات الداخليّة… وبعد سرد قد يراه البعض طويلًا تأتي الضّربة من خلال قولها :

ماذا تنتظر أن يكون تعويضها، فمن يخسر شيئا ماديًّا يعوض عليه بالمال، ومن يتأذّى جسديًّا تتكفّل الدّولة بعلاجه، فماذا تنتظر تعويضًا عن شريك حياة أخلّ بعقد الشّراكة، تيمنًا بأحوال الوطن وفسخ عقد الشّركة بين أبنائه؟؟؟ .

إنه سؤال جريء ومهم أن يسأله كلّ قائد لا يهمه إلا الحروب. فهل للدّولة أن تعوض عائلة الشهيد؟؟؟

وهكذا في قصتها في الأربعين حين تقول بعد سرد قصصيّ للحياة اليوميّة والعلاقات الاجتماعيّة :

… يقولون إنّ المرأة تخشى عمر الأربعين… لماذا؟؟؟ رغم إنه عمر النضوج والحياة تبدأ مع الأربعين .

وفي قصتها موت عصفور تطرح القاصّة رؤيتها وتساؤلها عن سبب عجز العدالة في وطنها عن معرفة الذئب الذي عادة يموت سره مع موت الضحية من خلال طرح صورتين للتّحقيق، صورة يقوم بها الطير النّسر الذي يبحث عن سبب موت قتل عصفور جميل من غير ذنب يقترفه، وقصة عشيرة بأكملها تقتل فتاة دون الخامسة عشرة من عمرها لتتخلّص من عارها الذي لا يتعدّى كونها أحبّت..

وغير ذلك من قصص أخرى تريد القاصّة من خلالها أن تقول لنا حاضرنا هو صورة منكسرة لماضينا قصتها صدى الماضي … .

لقد اعتمدت القاصّة درية في خطاباتها القصصيّة على اللّغة السّرديّة لتشكيل خطابها لما تمتلكه من وعي خصب وتجارب ثرّة لكونها اللغة الأداة البنيويّة للتّعبير عن مكنوناتها حيث تنبري عناصر التّشكيل اللغوي في قصصها منهج الرواية، وتتّخذ من السّرد مسرحًا لتمثيل التّاريخ بإفرازاته وقوانينه الاجتماعيّة بوصفه حدثًا ماضيًّا معيدة كتابته من جديد سرديًّا، بعد أن تتعامل معه كونه فاعلًا نصيًّا حيًّا يتجاوز حدود الماضي إلى الحاضر وما بعده.

تشتغل القاصة دريّة في مجموعتها هذه باستثناء قصصها القصيرة جداً في نهاية المجموعة أولاً على استدعاء الموروث الاجتماعيّ ومن ثم توظيفه بأسلوبيّة فنيّة من خلال استنهاضها للحكايات والصور والأزمات التراثية بأسلوب يقترب شيئًا ما الى الإطالة والمباشرة من خلال الفرط السرديّ المباشر والوضوح الحكائيّ، لكونها تشتغل على طريقة عرض الحال السرديّة وتصوير مفرداتها تصويرًا دقيقًا من خلال حواراتها المشوّقة كالتي جرت بين العجوزين في الحفاظ على كل ما يُذكّرهُم بحاجيات ابنهما المسافر، قصتها العجوزان ، ووصف المكان وصفًا جميلًا مركّزًا، وكما في قصتها الغائب :

«صمت وهدوء يتراقصان في أرجاء البيت الواسع ذي الحجرات الكبيرة، صمت يرنّ ويدقّ بين جدران المنزل، صمت لم يعتد عليه هذا البيت، لم تألفه صوره وثرياته، ولم يسبق أن ارتاحت أرضية المنزل من حركة الأرجل وآثار النعال».

لخلق معادلة منطقية للوصول الى البؤرة، أي نقطة الأرتكاز والمحور، أو من خلال جعل المشهد ينطق بما يؤمن به المجتمع صاحب الصورة بمشاهد أصبحت مقدسة لديه بفعل التراكمات الأرثية…

«وعرفت الآن… عرفت لماذا بكى الأهل والأقارب والناس جميعاً هذا الشخص بكاءً حارًا قويًا. لم يبكوه لأنه رحل عن هذه الدنيا، إنما بكوا فيه آمالهم التي ضاعت… مستقبلهم الذي تعثر…»

رغم كل هذا جاء سرد الحدث في قصصها متّحدًا ومنسجمًا من دون تشتيت، كلّ هذا لتُحمله الفكرة التي تريد إيصالها إلى القارئ بعدًا فكريًّا واجتماعيًّا وثوريًّا ، وحيث يعاني شخوصها من حالة قلق وإرباك نفسيين لعدم تحقيق أغلب وأجمل أمانيها فيداهمها اليأس في التغيير.

الكاتبة درية استخدمت تقنينها في الحفاظ على البؤرة من خلال التقنين في عدد شخصياتها التي لا تتجاوز شخصية واحدة أو شخصيتين يجمعهم مكان واحد وزمان واحد على خلفية الحدث والوضع المراد تناوله لكون العلاقة بين الزمان والمكان في الأعمال السّردية تبادليّة.

فمثلما كان هناك تقنين في عدد الشخصيات هكذا كان هناك تقنين في الزّمان والمكان، كي لا تتشتت الفكرة وتبتعد عن المركز، وبهذا نجحت القاصة في جعل القارئ ملازمًا للبؤرة التي تحوم حولها القصة، أي حول النقطة التي انطلقت منها في طريقة تجمع بين السّرد المكثّف والوصف المتوغّل داخله، بعد أن حملت سردها بالحوار لكسر الرّتابة بطريقة جعلت قصصها قادرة على خلق منطقة وسطى بين القصة القصيرة جدًا والقصة القصيرة. كما نجد في قصتها سراب الماضي :

«ما أثقل هذه الخطوات… خطوات قليلة توصله الى نهار جديد، الى عالم آخر، هل يدرك كم من الدقائق والساعات والأيام قد مرّت، هل ما زال يعدّ ويحسب، أم أن غده كيومه، كأمسه، من منهما هو الأسبق… أشرقت شمس وأغربت، جاء شتاء ورحل»…

القاصّة درية فرحات تعي أنّ الأمكنة المتعدّدة في الأعمال السّرديّة القصيرة تفصح عن معانيها وأبعاد وظائفها السّرديّة إذ تخلق بؤرًا عديدة، يكون من الصّعب على القارئ الرّبط بينها عبر الزّمان الذي تستحضره آفاق الاشخاص وحركاتهم وأفعالهم لذا تراها دائماً تجعل الزّمان والمكان في نقطة البؤرة نفسها، كما في قصتها السّابقة سراب الماضي، وحيث المكان لا يتجاوز إلّا نقطتين المطار والبيت…

وتكون بهذا قد نجحت القاصة في استحضار الحدث والمكان والموروث عبر مؤشر وعيها الكاشف عن الرّؤية لكونها عتبة لكشف الضّمير في الحكاية أو الحالة بوصفها جوهرًا توليديًّا، واستخدامها لغة قريبة للغة الشّعر المقننة بانزياحاتها في توصيفاتها.

حيث استطاعت الكاتبة أن تلخص رؤيتها الكلية من خلال قصتها أمل الأرض بقولها:

«…أما زلت تبحث عن مجهول لينقذنا مما نحن فيه يا سيدي… أنت تبحث في السراب، فما حصل قد حصل… والأرض الفتية قد بارت ولم تعد تصلح للزّراعة.. أَنسيت فقد أصابها ما لم يُصِبْ أرضًا أخرى.. قد شربت من دماء أبنائها الكثير ودُكّ فيها من الحديد ما يجعل كل ما في أحشائها يظهر على السطح…».

نعم لم تعد تصلح للزّراعة لأنّها سقيت بدماء أبنائها… لم تعد تصلح بسبب الانتهاكات المتكرّرة لدك القنابل والصّواريخ في أرضها بسبب ما حيك لها من المكائد….

وفي الختام نقول: تمتلك القاصّة درية فرحات رؤية ناضجة في الصّياغة الفنيّة ومنصات التّعبير في الرؤية الفكريّة، التي تستخلصها من خلال استدعاء الواقع الحياتي والمعاشي، وصياغته بخيال فنيّ خصب في آفاقه الواسعة والمتمددة لكونها تغوص في صلب الاشياء وعمقها، لتخرج منها الجوهر، لما تمتلكه من تجربتها في الممارسة الأدبيّة التي أكسبتها خبرة ومهارة في كيفية استخدام الأشكال السّرديّة وتقنياتها، التي تعطي القوة التّعبيريّة في طرحها وتشخيصها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى