المصالحات على الطريقة اللبنانية تنسف الديمقراطية!

د. وفيق إبراهيم

تتزايد المصالحات بين القوى السياسية في لبنان بشكل يصبح مستحيلاً تحديد الأسباب الأساسية لاختلافها والدواعي العجيبة لالتقائها.

لكن السرعة في قدرة النظام السياسي على إخماد هذه الخلافات تؤكد أنها ظاهرة غريبة على العمل السياسي السوي في العالم، ولا تنتمي الى آليات النظام الديمقراطي التي تفرز بطبيعة رعايتها لتشكل السلطة بين موالاة تحكم ومعارضة تراقب سلامة أدائها، فيستقيم بذلك الاستقرار السياسي والاقتصادي بالحدّ الأقصى المطلوب.

فهل هذا ما يجري في لبنان؟

لا ينتمي الصراع السياسي في لبنان الى النظام الديمقراطي الذي يفرز عادة بين برامج عمل متنافسة لها وجهات متعدّدة وفيها الداخلي والوطني والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.

لجهة السياسة فإنها داخلية وخارجية تعملان معاً على توطيد الاستقرار السياسي، فرئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون تسلل من آليات الديمقراطية البريطانية على أساس رفضه للاستمرار في الاتحاد الاوروبي أو التلكؤ في الخروج منه، مع التحالف من دون شروط مع السياسات الاميركية.

ولهذا التوجه أبعاده الاقتصادية، لأنّ جونسون يعتقد انّ هناك إعادة تشكيل لنظام قوة جديد في العالم، لا دور للاتحاد الأوروبي فيه، بسبب ضعفه، هذا الى جانب انّ المانيا هي نمر أوروبا الأساسي، فاعتبر انّ المزيد من اصطفاف بلاده العميق أصلاً الى جانب الأميركيين يُلبّي حاجات الاقتصاد البريطاني في العالم على متن القطار الأميركي الكوني، معبّراً في الوقت نفسه عن تحالفات بين قوى يمينية في مجمل العالم الغربي، أصبحت من مصلحتها طرد العمالة الأجنبية لأنها لم تعد بحاجة اليها، كذي قبل وبعد تطوّر الآلات والاكتشافات التي تشجع على الاستغناء عن البشر.

هذه نظرية يعمل عليها أيضاً الرئيس الأميركي ترامب وكثير من الأحزاب في البرازيل وكندا وايطاليا والنمسا بما يؤكد على الطابع السياسي للصراعات داخل الأنظمة الديمقراطية وارتباطها ببرامج عمل مسبقة الإعداد.

أما في بلاد الأرز، فهناك تشابه في المنطلق فقط، على أساس انّ برامج عمل الأحزاب العاملة ضمن إطار السلطة تعرض التزاماً عميقاً بالديمقراطية والاستقرار السياسي للبنان والتعاون الدولي والاقليمي والتوازن الاقتصادي والالتزام بالمقررات الدولية إلخ… من إنشاء معلول سقيم لا يقرأه حتى الذين كتبوه.

إلا انّ هذا الإنشاء يخسر في البداية خمسين في المئة من قوّته بطائفية النظام السياسي، فيتكوّر داخله ممثلاً مذهبه. فتعتقد الانقسامات اللبنانية الطائفية انّ أحزابها حظيت بفرصة العمل من أجلها، وسرعان ما تكتشف انّ هذه الأحزاب بعد نجاحها بواسطة الشحن الطائفي تمسك بالمال والتعيينات والإعلام والدين، فتسيطر حتى على دبيب النمل في طوائفها، وتفرض تفاعلاً رتيباً يتلهّى بالاستماع الى الأساطير التي تربط بين الأنبياء والرسل والإئمة وبين القادة السياسيين والطوائف.

هنا يرفد الإقليم ما يراه مناسباً لسياساته ويغطي هذه التفاعلات الطائفية، حتى أنّ سفراء يكرّمون مدراء عامين ويقيمون ولائم وحفلات لموظفين ووزراء ورؤساء بلديات.

إنما ما الذي يعكر هذه الصورة التي أصبحت عادية؟

هناك عاملان: الصراع السياسي الحاد داخل كلّ طائفة ومذهب، وتراجع الدعم الخارجي المالي، فتنفجر صراعات داخل الأحزاب المارونية والدرزية والسنية، وفي ما بينها، وحدهم الشيعة الذين سيطر حزب الله وحركة أمل على سياساتهم بشكل كامل لكنهم لم ينجوا من الصراع مع أحزاب من طوائف أخرى، لخلافات على النفوذ الداخلي والسياسات الإقليمية، استناداً الى تباينات في التحاصص والتعيينات.

للإيجاز فإنّ الميثاق الوطني يعطل لعبة التحالفات الطوائفية شاحناً الشارع الى أقصاه، فالكلّ مشتبك مع الكلّ، فهل الأسباب لمصلحة لبنان؟

بعض القوى تربط بين ولاءاتها الإقليمية والخارجية وبين مصالحها في التعيينات والتحاصص والاقتصاد.

ويبدو أنّ حزب الله منفرداً يطغى الجانب السياسي الداخلي والإقليمي على أيّ معطى داخلي، فيما تتعامل القوى الأخرى على أساس انّ انسجامها مع الخارج ليس إلا وسيلة لتأمين مصالحها الاقتصادية في الداخل وهي مصالح ترتكز على تقاسم الصفقات الاقتصادية وحصر التعيينات بالأحزاب القوية في لبنان.

انّ هذه المطالعة تكشف التباين الكبير بين النظام اللبناني والديمقراطية التي تدعم صراعاً سياسياً بين موالاة ومعارضة تراقب بعضها بعضاً ما يؤدّي الى تفعيل الإنتاج السليم وبالتالي الاستقرار مقابل نظام لبناني لا أحد يعرف فيه من هي الموالاة ومن المعارضات؟

والدليل أنّ الخلافات بين القوى تندلع فجأة وسط أسباب فعلية غامضة ومزاعم تؤكد على وطنية الصراع والنفايات والكهرباء وتنتهي أيضاً لدواعٍ لا يرفها احد، فها هو رئيس اللقاء الديمقراطي تيمور جنبلاط في ضيافة الوزير جبران باسيل في اللقلوق الجبيلية بعد أشهر من قتال كاد يؤدي بحياة الوزير صالح الغريب وانفجارات كادت تدفع نحو صراع درزي ماروني في الجبل.

وفي الوقت نفسه كانت قيادات أخرى من الحزب الاشتراكي في عرين رئيس المجلس النيابي تتصالح مع حزب الله بعد أشهر من قتال محموم بدأ بمعامل فتوش في جبال عين داره عابراً مزارع شبعا وكفرشوبا، وكانت حركة أمل سجلت تقارباً سياسياً ملحوظاً بدعم إلهي باتجاه التيار الوطني الحر.

وهكذا تنسف هذه المصالحة السياق الديمقراطي في معارضة وموالاة لمصلحة تشكيل نظام هجين ملبنن يلبّي مصالح قوى الطوائف فقط.

فهل باستطاعة النائبين جميل السيد وبولا يعقوبيان الاستمرار في معارضة فاعلة وسط إجماع نيابي كبير مغطى بالقديسين والأولياء.

للتذكير فإنّ المردة والتحالف السني المستقلّ والكتائب والقوات، يعارضون لأنهم ليسوا جزءاً من نظام التحاصصات، ولا تستطيع الأحزاب القومية والوطنية إحداث هزة كبيرة في هذه البناءات الطائفية العميقة.

يتبيّن انّ هذه المصالحات إنما تهدف الى تقوية النظام الطائفي وبكلّ سيئاته وإطالة عمره الى أمد طويل، بالارتكاز الى محاصرة الناس وشحنها باتجاهات لا تؤدي إلا الى إطالة السبات في كهف التخلف ومنع تأسيس وطن فعلي وصيانة الولايات الطائفية المتحدة في بلد العجائب.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى